تغريبة بني عداس: غجر الجزائر ترحال عبر الأزمنة والأمكنة
المدينة نيوز :- مثل هذا المثل الذي يحمل بمنطوقه كما بمضمونه دلالة الشجب والإدانة والتتفيه والتبخيس، فالشيء الغالي يصير رخيصا والجدي يصير هراء وعبثا لا يستحق أي تقدير ما دام يؤول إلى من لا يستحقه، وهذا المثل يحيل على التاريخ وعلى تاريخ الثورة الجزائرية، حيث أطلقت المقولة لأول مرة وغدت مثلا شعبيا يضرب لكل حالة مشابهة يؤول فيها النفيس إلى شيء بخس. فقد رأى الأهالي رجلا من قبيلة بني عداس يمتطي صهوة فرس عربية أصيلة، مرتديا لباسا أبيض ينم عن الوجاهة (البرنوس الجزائري) فلم يتحمل الأهالي ذلك فأنكروا عليه الأمر وأطلق المثل لأول مرة.
استعانت سلطات الاحتلال الفرنسي بهؤلاء العدايسية في تعقب الثوار والوشاية بهم، وفي تلقط أخبار الثورة وتبليغها إلى السلطات الاستعمارية وممارسة العنف ضد الأهالي، وقد أدركت أن العدايسية لا ولاء لهم ما داموا يعيشون على الهامش ويرفضون الاندماج، وفكرة الاجتماع الإنساني على أسس مدنية وحضارية. كما درجت الأمهات على التنديد بكل سلوك مشين، سواء أكان قولا أو فعلا يصدر عن أبنائهن ذكرانا أو إناثا وتشبيه من يقترف ذلك بالعدايسي، هكذا غدا هؤلاء القوم مضرب المثل في كل شيء مشين، في قلة الذوق أو قلة الحياء أو التوحش أو انعدام النظافة وغير ذلك.
بنو عداس أو بنو هجرس أو العمريون أو الجواطنة أو الجيطانو، فقد تعددت الأسماء والمسمى واحد هم غجر الجزائر، يعيشون على هامش التجمعات الحضرية وحواشي المدن في بعض المدن الساحلية ويحيون حياة الترحال في البادية وفي السهوب خاصة، حتى في الجنوب الجزائري، قدرت السلطات الاستعمارية عددهم في إحصاء 1939 بـ40000 واليوم هناك تقدير غير رسمي يقدرهم بمليون عدايسي. وتقول معاجم اللغة أن الفعل عدس يعني ترحل وانتقل، فلربما كان لذلك علاقة وطيدة باسمهم الذي عرفوا به، أما بنو هجرس فالعربية تطلق كلمة هجرس على ولد الثعلب أو الثعلب عامة، فهل رأى الناس تشابها بين أخلاق الثعلب وأخلاق هؤلاء القوم فوصموهم بهذه المثلبة، ناهيك من التشرد والمبيت في العراء؟ يذهب كثير من المؤرخين والإثنولوجيين إلى أن موطنهم الأصلي هو الهند وأفغانستان، خرجوا من تلك البلاد في هجرة جماعية في الألف الميلادية الأولى نحو الغرب هروبا من هجمات البربر ولجأوا إلى أوروبا الشرقية ووصلوا حتى الشمال الافريقي مرورا بالشرق الأوسط، فتونس ثم الجزائر وحتى المغرب الأقصى، تفرقوا أيدي سبأ على أربعين بلدا في العالم، وقد أتى على ذكرهم ابن خلدون فقد ذكر بأن بني أداسة موطنهم تونس، وقد أكد المؤرخ الفرنسي مرسيه E.Mercier أن بني أداسة الذين ذكرهم ابن خلدون هم بنو عداس.
من يتفرس في وجوه بعض غجر الجزائر يدرك بوجود تشابه خلقي مع غجر أوروبا الشرقية، فالمرأة مثلا قد تكون بلون قمحي وشعر أشقر وعينين خضراوين فهو جمال خارق متمرد طافح أنوثة وتمردا وعنفوانا، ما يؤكد رجوعهم إلى عرق واحد تفرق على جغرافيا العالم وأبى الاندماج وفضل الترحال والحياة على حواف المدن، على ما فيها من قسوة وشظف عيش ومخاطر وانعدام كل مرافق الحياة، مقصين الطفولة من حقها في التمدرس وأنفسهم من كل تغطية صحية، وفاء عجيبا لتقاليد الآباء والأجداد في التمرد والحياة بعيدا عن كل الالتزامات الاجتماعية مع الرفض الصارم للاعتراف بالمؤسسات، وكل أشكال السلطة ورفض حتى التوفر على وثائق هوية، ومن عجيب أمرهم أنه إذا مات لهم شخص لفوه بغطاء وتركوه عند أحد المساجد ليتولى الناس دفنه، فالأمر إشكالي مع السلطات لأن المتوفى لا وثائق له وهذا ما يوقعهم في متابعات فلم يجدوا من حل إلا إيداعه أحد المساجد ليتولى الناس دفنه وهكذا يسلمون من كل متابعة.
وعلى حواف المدن يعيشون في أكواخ من القصدير يدخلون إلى المدن لممارسة التسول والسرقة وتمارس النساء بلباسهن المزركشة ووجوههن التي شاهها الوشم كل أشكال الشعوذة والسحر وقراءة الطالع ويعرفن بالقزانات، وحيثما سرن تغلق النساء الأبواب ويحذرن الأولاد من فتحها لأن دخول واحدة معناه التعرض إلى السرقة أو العنف ربما، بينما يعيشون في البوادي على الترحال والرعي تتبعا للكلأ ووفاء لحياة التنقل الأبدية.
كثيرا ما يطرح المؤرخون هذا السؤال الملغز لم يؤثرون هذه الحياة على ما فيها من مشاق وحرمان من كل مباهج العصر وترف الحياة الحديثة، مسلمين أولادهم إلى الأمية ومباذل التسول والسرقة، ونساءهم إلى تعاطي الوشم والبذاءة والسحر والكهانة، وفي وسعهم أن يندمجوا في المجتمع ولو مع جيل أو أكثر ويحيون حياة التمدن والتحضر كيفما كانت؟
يبدو أنهم وسط بين مجتمعات التوحش ومجتمعات التمدن الحديثة، فقد مضى الزمن الذي كان ينظر فيه إلى مجتمعات التوحش أو الهمج كما سماها الرحالة الغربيون نظرة دونية تنم عن الاحتقار وعدم الاعتراف منذ كلود ليفي ستروس، فقد نشأت الإثنولوجيا تحت تأثير النظرة المركزية الأوروبية التي تجعل من الغرب معيارا ومن الحضارة الغربية مقياسا، وعلى أساسها يتم تحديد المصطلحات وتحييد ونبذ المجتمعات وتصنيفها بين مجتمعات متحضرة ومجتمعات متوحشة، وقد ذهب كلود ليفي ستروس إلى اعتبار الحضارات بنيات مغلقة لا يجوز تفضيل حضارة على حضارة إنما المفاضلة تتم على مستويات أخرى لا على نمط الحياة والمخيال الاجتماعي والأساطير أي الثقافة ونمط اللباس وجاء بيار كلاستر ليضرب الإثنولوجيا في الصميم مدينا عنصريتها ومركزيتها يقول علي حرب في كتابه التأويل والحقيقة (لقد تبلورت مع كلاستر نظرة جديدة إلى التاريخ قوامها أن ما يقسم المجتمعات هو موقفهم من مسألة الانقسام الاجتماعي ونظرتهم إلى طبيعة السلطة السياسية ومقامها كما شرح ذلك كلود لوفور ومارسيل غوشيه لأعمال بيار كلاستر). فقد أطلق توصيفه المشهور لهذه المجتمعات البدائية بالمجتمعات المضادة للدولة وهي المجتمعات البدائية التي كانت تمارس الحرب منعا لقيام الدولة والسلطة المركزية مؤثرة مشاعيتها رافضة كل شكل من أشكال التراتبية بين سيد ومسود، وآمر ومنفذ، فالكل سادة وإن وجد شكل من أشكال التراتبية فليس إلا السيادة الروحية والرمزية، أكثر من كونها سلطة سياسية، هكذا لم تكن الحرب القديمة عند المجتمعات الهمجية أو المتوحشة، كما تصمها الإثنولوجيا ذريعة للحصول على الرزق والتوسع وممارسة القهر والعنف الغريزي المتأصل في الإنسان، بقدر ما كانت ضد قيام السلطة، أي الدولة بالمفهوم الحديث، وهذا ماعناه الشاعر الجاهلي القديم القطامي التغلبي:
فمن تكن الحضارة أعجبته
فأي أناس بادية ترانا
وكنا إذا أغرنا على جناب
وأعوزهن كوز حيث كانا
أغرن من الضباب على حلال
وضبة، إنه من حان حانا
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
يقول علي حرب في كتابه الآنف الذكر (من هنا يقسم كلاستر المجتمعات إلى قسمين مجتمعات ما قبل الدولة، ويقوم تنظيمها على منع الانقسام السياسي وبالتالي رفض الدولة (مجتمعات مضادة للدولة) ومجتمعات تسودها الدولة، وهي المجتمعات التي تتميز بالخضوع لقانون الدولة وقبول الانفصال بين من يأمر ومن يطيع، فلا وجود إذن للدولة الطبيعية فالوجود الإنساني أفق تفتحه الثقافة، وما يسمى بالحالة الطبيعة، حيث يعيش البشر بلا قانون ولا ملك، حسبما وصف الرحالة الغربيون في العصر الحديث الشعوب البدائية بعد لقائهم الأول بها).
هكذا إذن ربما شكل الغجر في العالم وغجر الجزائر منهم وسطا بين المجتمعات البدائية والمجتمعات الحديثة، تعرضوا لغزو بربري فرحلوا نحو الغرب في رحلة جماعية محتفظين بسمات المجتمعات القبلية البدائية من رفض السلطة وتفضيل المشاعية ورفض حياة البيوت والاستقرار ورفض التملك والانتساب إلى المؤسسة أو الولاء للوطن، ولا للحياة الاجتماعية المستقرة غير حياتهم وهذا ما يفسر تعاونهم مع السلطات الاستعمارية زمن الاحتلال، هذه حياتهم ترحال دائم أو عيش على الأطراف والحواشي وممارسة السرقة والعنف، وكل أشكال البذاءات الأخلاقية وتخصص النساء بالكهانة والسحر والشعوذة، حتى إن مارس بعضهم طقوس التدين لكن الدين ذاته يخضع لأعرافهم ومنطقهم وأسلوب حياتهم.
وقد قدم الروائي الجزائري الشاب عبد الوهاب عيساوي عبر تمثله السردي وأسلوبه في التخييل، مصطنعا كذلك الأجواء العجائبية والأسطرة والقص المشوق والسرد الحيوي المتدفق واللغة المدهشة، ومتكئا على العرفان مما يجعل الرواية عرفانية بالدرجة الأولى تلوح منها آفاق الإشراق، وقد فازت هذه الرواية بجائزة سعاد الصباح للرواية عام 2017 وهي تستحق ذلك وترهص بتفوق وألمعية لهذا الروائي بالاقتدار في الكتابة الروائية، ولا عجب فهذا الروائي هو نفسه الذي سيحصد جازة البوكر بعد ذلك في «الديوان الإسبرطي» عام 2020 أدخلت هذه الرواية بني عداس إلى عالم التخييل والتمثل السردي، كاشفة بعضا من أسلوب حياتهم ونظرتهم إلى الوجود والحياة وحياة الترحال الدائم الذي يعيشونه عبر ثلاث شخصيات رئيسية الشيخ الذي يمثل السيادة الروحية والفتى «آغالي» صديق أحمد الذي يتعلم العربية ليقرأ ألف ليلة وليلة، والشابة الجميلة الغجرية «جالا» التي يهيم بها أحمد وتهيم به، لكنها تختفي في ظروف غامضة ـ غرقا في إحدى السباخ» ما يدفع أحمد إلى مغادرة بني عداس الذين عاش معهم عاما ليختلف مصيره عن مصيرهم، ويعود إلى الواحة ثم إلى مدينة الجلفة التي غدت ولاية وتغيرت ملامحها مع قدوم آخرين لاستيطانها، ما يدفعه إلى إعادة تكيفه مع المكان ومستجداته بعد الصيرورة الاجتماعية وتحول ماضي أحمد إلى أثر بعد عين.
الرقص، الاجتماع حول النار، مرونة الجسد وتعابيره بلغته الخاصة عبر الحركة المتوترة والقفز والوثب عن تمثل للحياة وللوجود الإنساني، يقول آغالي لأحمد: (نحن هكذا ألفة المكان هي التي تجعلنا نغني له ونرقص).
رواية انفتحت على عالم بني عداس متمثلة إياه وصاهرة له في العالم التخييلي والسردي، دون شجب أو إدانة أو تقييم أخلاقي وهذا ما تفاده الروائي ببراعة ليجعل من روايته مع اتكائها على الأسطرة والعجائبية وانفتاح على العقل الباطن والنوازع الغريزية والمكبوتات والذاكرة الجمعية والتاريخ كذلك، كل ذلك يجعلها رواية المصير الإنساني والبحث عن الخلاص وشجب التضييق على الحرية، وتأتي رمزية الدائرة والباب كعتبة أولى لتحيل على المستجدات والطوارئ التي تجعل المرء يعيش في دائرة أضيق لينتقل إلى دائرة أخرى أرحب عبر الباب المؤدي إليها حتى بلوغ الدائرة النهائية التي يغلقها أبدا الرحيل الأبدي.
مازال هؤلاء الغجر يشكلون هاجسا للسلطات فهم برفضهم الحياة الاجتماعية والدخول إلى المجتمع، من باب البيت والمدرسة، والتوفر على وثائق هوية والخضوع إلى السلطة، مؤثرين حياة الحرية والاقتصار على التسول والسرقة والنصب والسحر والشعوذة والترحال في البوادي والسهوب، ولا يخلو يوم من حادثة عنف أو اختطاف أو سرقة يقوم بها هؤلاء في المدن التي يدخلونها، ما يجعل من أمر تطويعهم وإخضاعهم للسلطة كباقي الناس أمرا عسيرا، وربما بعيد المنال فالقضية تضرب بجذورها في أعماق عقلهم الباطن وذاكرتهم الجمعية ومخيالهم الخاص وعالمهم الرمزي المفارق لعالمنا الرمزي والديني والاجتماعي والسياسي. فهم يتمسكون بالحاشية والطرف والهامش معتزين بذلك غير مبالين بأحكامنا الأخلاقية عليهم وقاموسنا الاجتماعي والسياسي والحضري.
القدس العربي