الروائي المصري أحمد عبد اللطيف: انتصاري للرواية وليس للتاريخ وأترجم للتجسس على اللغات الأخرى
المدينة نيوز:- أحمد عبد اللطيف روائي ومترجم وصحفي (مواليد 1978)، يؤمن بالتجريب في الكتابة، ويعتبر أن ذلك يمنح النص حياة جديدة وأفقا فلسفيا ليس بعيدا عن الواقع، وإنما يتأمل فيه ويستكشف ما وراءه.
يتميز مشروعه الروائي بخصوصية البحث عن المتروك والمهمل في الحياة لبناء عالم روائي متخيل، ففي روايته "حصن التراب" لم يكن مشغولا بكتابة التاريخ والقضايا الكبرى، بل كان ما يهمه كتابة سيرة الأفراد في تلك الفترة التاريخية المفصلية، أما في روايته "إلياس" فكتب عن هزائم الإنسان في الفترة التاريخية الممتدة من 711 إلى 2013 م.
يشغله سؤال الإنسان الذي يتعرض للخيبات والانكسارات بفعل الأحداث التي تشهدها حياته ووطنه.
في مجموعته القصصية الأولى "مملكة مارك زوكربيرغ وطيوره الخرافية" تحرر من علامات الترقيم وصنع قصة طويلة من جملة واحدة طويلة بدون حواجز.
وفي روايته الجديدة الصادرة هذا العام "عصور دانيال في مدينة الخيوط" -حيث المدينة تسكنها الدمى وتنقسم إلى مدينة علوية وأخرى سفلية- عاد إلى سؤال المدينة الذي شغله في أغلب رواياته مثل "صانع المفاتيح"، و"عالم المندل"، و"كتاب النحات"، و"إلياس".
في هذا الحوار يتحدث الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف عن علاقته بالكتابة والقارئ وسوق الترجمة والناشر العربي.
لماذا تكتب؟
ربما الكتابة من الأشياء القليلة التي لا نعرف لماذا نريد أن نفعلها حتى نفعلها، في تجربتي أكتب لأعرف، لأني من خلال الكتابة أفكر وأتأمل، ثمة صورة تظهر في خيالي وتراودني، ثمة عبارة تلاحقني أو حدث يلح علي.
مجموعة من قطع "البازل" المتناثرة التي لا أعرف العلاقة بينها وأسعى لمعرفة ذلك، هكذا أكتب لأجمع هذه القطع ثم أعيد بعثرتها ليلملمها القارئ فيكوّن نسخته الخاصة من النص.
روايتك الصادرة حديثا "عصور دانيال في مدينة الخيوط".. هل يمكن أن تحدثنا عن أجوائها الإبداعية؟
تخيلت أن الإنسان الحديث -خاصة في دول العالم الثالث- ليس إلا دمية تحركها خيوط خفية، مجموعة هؤلاء الأفراد يكونون مدينة هي مدينة الدمى، مدينة علوية تعيش على سطح الأرض ومرئية للجميع، فيما تحت الأرض تكمن السلطة القادرة على مد الخيوط من فوق رؤوس المواطنين وتحريكهم في الاتجاه والوقت المناسبين.
"عصور دانيال" تصور قاتم وكابوسي عن الحياة المعاصرة، وسؤال حقيقي حول السلطة، وتمرد فني على استلاب الإرادة وانتهاك الحرية، لكن هذه المعاني أو الشعارات كما في الفن عادة تتسرب عبر الحكاية كما علمتنا شهرزاد.
في أعمالك الروائية انشغال بسؤال التاريخ والتنقيب في التراث العربي السردي.. هل يمكن أن نعتبر رواياتك وثائق اجتماعية بلغة الأدب؟
سؤالي الأساسي هو سؤال اللحظة الراهنة، أما الوسيلة فالعودة إلى التاريخ أو التنقيب في التراث أو الكتب الدينية أو النفسية أو الفلسفة.
ورواياتي ليست إلا أعمالا فنية تنطلق من الحكاية وتتوسلها، لدي تصور أن ما يمكن كتابته خارج فن الرواية لا يصح أن يدخل في محتواها، وهكذا فالرواية ليست بحثا اجتماعيا ولا منشورا سياسيا ولا كتاب تاريخ.
ميزة فن الرواية قدرته على ابتلاع كل شيء وتحويله إلى شيء آخر، شيء فني وجمالي.
أظن أني أهتم دائما بأصل الشيء وأعود إليه باستمرار، أشير هنا إلى معنى الرواية كحكاية في الأساس، وضرورة أن تحافظ على هويتها هذه، حتى مع كل تجديد وتجريب وتفكيك للمعنى.
في أعمال دوستويفسكي ومن قبله ثيربانتس وألف ليلة يمكن أن نجد البعد الاجتماعي أو السياسي، لكن المهم هنا هو الفرد وحكايته وسط هذا السياق، كل ما هو سياسي واجتماعي سيُنسى مع مرور الوقت ولن يهتم به إلا الباحثون، لكن الفن نفسه ما يبقى.
تكتب في الصحافة الثقافية وتترجم عن اللغة الإسبانية، ماذا أضافت تلك المعارف للرواية التي تكتبها؟
الصحافة والترجمة منبعان أساسيان وجسران رئيسيان في تواصلي مع الواقع، ومن خلالهما أطلع على كل جديد في عالم الأدب.
أعتقد أن الأديب يشبه الطبيب في ضرورة اطلاعه على التطورات العلمية في تخصصه، وأنا أحب الاطلاع على ما يكتب الآن، على الأقل من قبيل الفضول.
ثمة شيء يدفعني لهذا النوع من التجسس على زملائي في اللغات الأخرى، حتى لو كنت في النهاية أعرف ما أريد كتابته، هذا الاطلاع درس حقيقي في التواضع، فكلما اتسعت رؤيتنا وقرأنا أعمالا جيدة ابتعدنا عن نرجسيتنا ونظرنا في ما ينتجه الآخرون.
أظن أن على كل كاتب يريد أن يكون جيدا أن يتعلم درس التواضع، لا لشيء إلا ليجتهد ويتعلم، فمع كل كتاب جيد نقرؤه نتطلع إلى كتابة بالمستوى نفسه.
من هو القارئ النموذجي من وجهة نظرك؟
كل قارئ يدخل لقراءة العمل الأدبي بمنطق العمل وليس بمنطقه هو، كل قارئ يسمع للعمل وما يقدمه له وليس ما ينتظره هو من العمل، فالقراءة تشبه صيد السمك، تلقي بصنارتك في البحر وتنتظر ما يجود به، التوقعات مباحة بالتأكيد، لكن القارئ النموذجي هو من يفهم ما يريد أن يقوله الكاتب، ويصعد معه على هذا الجسر الممتد ليخرج في النهاية بتأويله الخاص.
كم تضم مكتبتك من عناوين تقريبا؟
لا أعرف بالتحديد، لابد أنها تجاوزت 5 آلاف كتاب منذ سنوات.
ما هو إيقاع الكتابة لديك؟
أكتب يوميا تقريبا، لكني أكتب بعيدا عن الكتابة أكثر مما أكتب في ملف، عادة ما أنشغل بمشروع يستمر في خيالي شهورا قبل أن أكتب فيه كلمة واحدة، هذه الفترة هي أهم فترات الكتابة، حيث يتكون العالم وتتشكل الشخصيات بلغتها وطريقة تفكيرها وأسئلتها، أثناء ذلك أحاول أن أصنع شخصيات بعيدة عني لا تعبر عن سؤالي بقدر ما تعبر عن سؤالها، لتروي حدثا يخصها ولا يخصني أنا.
مع بداية الكتابة في ملف "وورد" أقدّر الإلهام، لا ألتزم بمواعيد في الكتابة وإن كنت أحب الصباح، ولا بمقدار، ثمة أيام أكتب فيها من السابعة صباحا حتى العاشرة مساء، وفي أيام أخرى كثيرة لا أكتب صفحة، لكن خيالي يواصل عمله.
لعل إحدى علامات التجريب في روايتك "سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج" هي استدعاء "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، و"الكوميديا الإلهية" لدانتي، و"بورخيس" وطه حسين، هؤلاء يشتركون في سؤال العمى والرحلة والكشف والصراع بين زمنين، أي سكان المملكة والمدينة الحديثة، لماذا هذا الشغف بسؤال المدينة منذ روايتك الأولى "صانع المفاتيح"؟
ربما لأني ابن مدينة القاهرة، المدينة المزدحمة والمتغيرة التي تغوي أبناء المدن الأخرى والقرى والكريمة في عطائها لهم ولنا، مدينة الأصوات والحركة التي لا تنام، الهادئة حينا مثل ماء النيل والعنيفة حينا مثل صخب السيارات.
ثم لأن الرواية -في رأيي- ابنة المدينة، الفن المعبر عن الطبقة الوسطى، والمدينة وحدها القادرة على اتساع السؤال المعاصر، لأنها الأكثر زخما والأقل ترابطا بين أفرادها.
اعتمدت المشاهد البصرية في أعمالك، هل أنت محب للسينما؟
بالتأكيد، علاقتي مع الصورة لا تقل عن علاقتي بالكلمة، تحديدا لأن بداية كل رواية لي تأتي في شكل صورة أو حلم، أنا أرى الشيء أولا ثم أكتبه.
شيدت مدنا تحت الأرض، قدمت ما يشبه نقد الواقع الاجتماعي المصري وتحكم الثقافة الذكورية في مصير النساء كما في رواية "عالم المندل"، و"يوميات عائلة موريسكية في ظل حكم التاج الإسباني"، ما الذي تبحث عنه في الكتابة؟
أبحث عن المهجور والمتروك والمهمل، لا يلفتني الجمال الكامل بقدر ما يلفتني الجمال الناقص، لا أسمع الصوت العالي بل الصوت المكتوم والصمت، لا أفهم الكلام المؤثر بقدر ما أصدق نظرات العيون المعبرة.
وفي الكتابة هذا ما يغويني، أن أزرع شجرة في صحراء، أن أستعير مشاعر أخرى أصدقها، أن أشيد عالما سرديا أصيلا، ليس إعادة ولا تكرارا، حتى في التناص مع قصة سابقة أسعى لمنحها تأويلا جديدا بحيث تتجاوران.
رواية "حصن التراب" تدور أحداثها من خلال عائلة موريسكية عاشت في الأندلس وعاصرت سقوط مدنها وعانت القهر والطرد.. إلى أي حد استطعت كتابة تاريخ متخيل مبني على وقائع تاريخية معلومة؟
هذا ما يعنيه لي مفهوم "رواية تاريخية"، إذا كان التاريخ معنيا بالأحداث الكبرى فالرواية بالأحداث الصغرى، وإذا كان معنيا بالملوك فالرواية معنية بالأفراد، الحدث التاريخي ليس إلا ذريعة لفهم ما هو أكبر منه للتعمق في ذواتنا وفهم واقعنا، انتصاري إذن للرواية وليس للتاريخ، للمعنى والشعور وليس للحدث.
تتبّع تطورات عائلة موريسكية على مدار أكثر من 300 سنة من خلال الوثائق والمستندات في رواية "حصن التراب"، هل الأمر مرهق نفسيا على المستوى الإنساني ثم على مستوى الكتابة؟
كل مراحل الكتابة والبحث كانت ممتعة، كنت أستكشف وأكتشف، أقرأ وأتأمل، عندما تكون مؤمنا بقضية لن يرهقك العمل عليها، كل يوم ستبني فيها على مهل، ربما اجتهادي الأكبر كان في الصيغة الجمالية والأسلوبية، في صنع رواية تعبر عن تصوري الجمالي وتقترب مما يدور في ذهني، فكما يقول بورخيس "نقرأ ما نحب ونكتب ما نستطيع"، هذه الاستطاعة ما كانت تشغلني.
بصفتك مترجما، ما هي الصعاب التي تواجهك؟ وهل هناك عمل ترجمته وتمنيت أن تكون أنت كاتبه؟
الصعاب اللغوية والثقافية مقدور عليها، أما صعوبات السوق ومحاولة توسيع هامش الثقافة عبر أعمال غير أدبية فعقبة كبرى، فالواقع العربي يحتاج إلى ناشرين أكثر شجاعة وأكثر كرما، وسوق الترجمة يحتاج إلى إعادة تنظيم لتكون العملية مفيدة ثقافيا وليس ربحا تجاريا.
كل الأعمال التي ترجمتها أحببتها، لكن "من الظل" لخوان مياس له قطعة في قلبي.
المصدر:الجزيرة