في ذكرى رحيل دولة الشهيد هزاع المجالي

تم نشره الأحد 28 آب / أغسطس 2011 10:45 مساءً
في ذكرى رحيل دولة الشهيد هزاع المجالي
د. محمد تركي بني سلامة
تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية لاستشهاد الرمز الوطني الخالد الشهيد هزاع المجالي، رائد المدرسة الواقعية في الفكر السياسي الأردني الحديث، ولما كان لهذا اليوم دلالاته ومكانته في نفوسنا فإنه لا بد أن نستذكر فيه الشهيد الراحل وتستيقظ فيه الذاكرة على تضحيات وبطولات العديد من الشخصيات الوطنية ذلك أنه من الجحود والنكران أن تمرّ مثل هذه المناسبة دون أدنى توقف أو التفات.
ولد الشهيد هزاع المجالي في مضارب أخواله الونديين من عشائر البلقاء عام 1917، والتحق بمدرسة الكرك حيث ترأس فرقة الكشافة، ولما كان وما يزال التعليم هو السبيل الأمثل نحو التمكين السياسي والاقتصادي والاجتماعي فهو زينة للأغنياء وسترة للفقراء فقد واصل هزاع دراسته الثانوية في السلط والجامعية في دمشق حيث حصل على إجازة في الحقوق وافتتح مكتب للمحاماة في الكرك، وأخذ يتردد بحكم عمله على العاصمة عمان حيث بدأ نضاله السياسي ضد الموظفين المستعارين الذين كانوا من أصول غير أردنية وأصبح شعاره: "الأردن للأردنيين "، وقد كان لانضمامه للتيار الوطني المناوئ لسياسة استعارة الموظفين غير الأردنيين للعمل في الوظائف العليا في الدولة أثراً كبيراً على شخصيته وفلسفته في العمل السياسي في السنوات اللاحقة حيث طغت المصلحة الوطنية الأردنية بالنسبة لهزاع على بقية المصالح والاعتبارات.
بدأ هزاع العمل الحكومي في بلاط الملك عبدالله الأول حيث مارس أسلوباً جديداً في العمل، امتاز بالصراحة والوضوح بعيداً عن التكلف والنفاق، فكان أن أعجب به الملك المؤسس فقربه إليه وأسند له رئاسة بلدية عمان وهو لم يتجاوز الثلاثين من العمر، وقد استطاع أثناء إشغاله لهذا المنصب أن يبدأ عملية تحديث في البلدية ويحقق إنجازات كبرى في هذا الصدد بالرغم من ضعف الإمكانات وشح الموارد فقد كانت الدولة الأردنية تعتمد في جزء كبير من موازنتها على المساعدات الخارجية، وقد قدر الملك عبدالله جهود وخدمة هزاع فقلّده قلادة تقدير كتب عليها "قلادة تقدير تهدى إلى رئيس بلدية عمان هزاع المجالي وتبقى لا خلافة من بعده " لا تزال محفوظة حتى يومنا هذا في أمانة عمان الكبرى.
كانت المحطة الثانية في حياة هزاع في العمل السياسي اشتراكه في حكومة سمير الرفاعي وزيراً للزراعة ثم العدلية، وبعد استقالة الحكومة ترشح لعضوية مجلس النواب حيث فاز عن دائرة الكرك وأصبح أحد أركان المعارضة السياسية في المجلس، وقد كان لهزاع فلسفة ورؤية خاصة تجاه المعارضة إذ اعتبرها مصلحة وضرورة وطنية وصمام أمان لمنع استبداد السلطة أو تعسفها، وبالتالي تحقيق الاستقرار والتوازن، الأمر الذي سهّل انتقال هزاع من المعارضة إلى السلطة لاحقاً، والحقيقة أن المعارضة في تلك الفترة كانت محل احترام وتقدير وليس كواقع المعارضة في عالمنا العربي اليوم حيث ينظر إليها بازدراء وعداء وتشكيك.
ثم شكّل هزاع المجالي حكومته الأولى في عام 1955، وقد تبنى هزاع دخول الأردن في حلف بغداد انطلاقاً من انتمائه للمدرسة الواقعة في العلاقات الدولية، إذ وضَع مصلحة الأردن الوطنية العليا فوق كل الاعتبارات وآمن أن الأردن بحاجة لمساعدة الغرب من أجل مواجهة التحديات الداخلية فالغرب ولا سيما الولايات المتحدة لم تكن تقبل بتقديم مساعدات اقتصادية
أو عسكرية للأردن دون ثمن سياسي انطلاقاً من مبدأ ثابت في العلاقات الدولية يقول:
"The hand that gives aid, gives rules too "، وكذلك مواجهة الأخطار الخارجية التي كانت تهدد الكيان السياسي برمته، إلا أن طغيان المد القومي في عهد ساحر الجماهير عبد الناصر والموقف السلبي للأحزاب الثورية الأردنية التي كانت لها امتدادات خارج حدود الدولة الأردنية قد ساهمتا في إسقاط المشروع، وبالتالي استقالة حكومة هزاع بعد أيام من تشكيلها. والحقيقة أن اسم هزاع المجالي قد ارتبط بعد ذلك بمشروع حلف بغداد، ويقيني أن في هذا ظلم كبير وتجني على الأردن وعلى الشهيد هزاع المجالي، فالأردن طوال تاريخه لم يقبل في يوم من الأيام ولن يقبل في يومن من الأيام إلا أن يكون مع ما يتفق مع مصلحة العرب الأولى ويدعم الموقف العربي تجاه أم القضايا قضية فلسطين. أما بخصوص المواقف القومية لهزاع سواء تجاه الثورة الجزائرية في تلك الفترة أو تجاه قضية فلسطين أو تجاه العراق جميعها تؤكد أن توجهات هزاع الوطنية الأردنية لم تكن على حساب القضايا القومية. فهذا موقف أردني ثابت وأصيل على مر الأيام والسنين.
شكّل هزاع حكومته الثانية في عام 1959 وكانت الرحلة بين الأعوام 1955 و1959 صعبة وشاقة وكانت سنوات عاصفة في حياة الأردن وإذا كان الملك الراحل الحسين لم يكن ليقبل بالسلوك المتغطرس من بعض القوى الإقليمية تجاه الأردن فكان من الطبيعي أن يؤكد الثقة بهزاع ويكلفه بتشكيل الحكومة مرة ثانية، وقد كان لهزاع إبان توليه المسؤولية مواقف نعتز بها ونعتبرها مرجعاً ننهل منه وبوصلة نهتدي بها في التضحية وحب الوطن واحترام المعارضة والرأي الآخر وغيرها من القيم والشيم لتي تعتبر مصدر إعجاب وتقدير ومبعث أتباع وتأييد.
لقد دعا هزاع إلى التماسك واللقاء والتساند بدلاً من التصادم والمجابهة وقد قبل بفكرة الكيان الفلسطيني وإنشاء جيش فلسطيني، فكان أن اغتيل ثمناً لهذا الموقف فامتدت له يد الغدر والخيانة في صباح يوم التاسع والعشرين من آب عام 1960. وقد كلف المرحوم جلالة الملك حسين رئيس ديوانه بهجت التلهوني في تشكيل حكومة وعلق على ذلك قائلاً: لم يكن من السهل استبدال رجل كهزاع، قضوا على هزاع، فأصابونا إصابة بالغة عنيفة في أعماقنا، ولكنهم لم يقضوا على الأردن، فعلينا أن نواصل أداء رسالة هزاع المجالي رعاية لمصلحة هذا البلد وخيره.
لقد كان هزاع يشاهد في شوارع عمان يقود سيارته بنفسه دون حراسة مؤمناً أن خير قلعة يحتمي بها القائد هي محبة واحترام الشعب، فعاش واستشهد وهو قريبٌ من الناس لا بعيداً أو غريباً عنهم، وعندما نصحه السفير البريطاني في الأردن تشارلز جونستون بتشديد الإجراءات الأمنية لحماية شخصه رد قائلاً: نحن المجالية معتادون على أن نَقتل وأن نُقتل.
إن ذكرى استشهاد هزاع اليوم هي ذكرى غالية وعزيزة علينا، وهي جزء من تاريخ الأردن ومواقف وتضحيات وبطولات الكثير من زعمائه فالذاكرة الأردنية مليئة بالأسماء من أمثال هزاع المجالي وأذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض الأسماء التي لها وقع في الذاكرة الأردنية من أمثال حسين الطراونة وعودة أبو تايه وتركي كايد عبيدات وعبدالله التل وماجد العدوان ومثقال الفايز وكليب الشريدة وناجي العزام ورفيفان المجالي وعلي نيازي التل وصايل الشهوان وحديثه الخريشه ومنصور القاضي وطاهر أبو السمن وسعيد أبو جابر وحمد الجازي وقاسم الهنداوي وسليمان الروسان وظاهر الفايز ووصفي التل وعضوب الزبن وصيتان الماضي وملحم التل وفيصل الدغمي وغيرهم من رجالات هذا الوطن الذين تبقى أسماؤهم ومواقفهم حية في الذهن والذاكرة، وعلينا أن نجعل من مناسبة رحيل كل منهم يوماً مباركاً نستلهم فيه مسيرتهم ومواقفهم فنستخلص العبر والنتائج وتتحول ذكرى رحيل كل واحد منهم إلى منطلق جديد في معركة البناء والتحديث بقلوب يملؤها الإيمان والمحبة والاطمئنان إلى منجزات الحاضر واستشراف مستقبل مليء بالأمل والرجاء بحيث لا تتيه بنا سبل التشتت والضياع، وهذه أمانة يجب أن نحفظها لهذا الجيل الذي سبقنا حتى ينصفنا الجيل الذي سيلينا.
إن استلهام مسيرة ومواقف هذا الجيل يكون بتحويل مثل هذه المناسبات إلى مانفستو وطني نستلهم منه العبر والدروس ونشحذ الهمم والطاقات ونبذل المزيد من العطاء والجهد من أجل تحقيق المزيد من التقدم والإنجاز في الحرية والتحرر والعيش الكريم والوقوف ضد الظلم والطغيان أي كان مصدره كل ذلك بأنفة وكبرياء وشموخ في مسيرة طويلة نتمسك فيها بلغة الأمل والإيمان والحب والتضحية ورفض الخوف والتردد والشك والتشكيك والإثارة، فذلك هو التجسيد الحقيقي لقيم الوطنية الصادقة والانتماء والوفاء لتضحيات ومواقف ذلك الجيل، وهذه مسؤولية تقع على عاتق الجميع منا وتستلزم إرادة قوية ونضال شعبي مستمر.
إنها مناسبة لتوحيد الصفوف وصياغة خطاب سياسي جديد وبرنامج وطني جاد لمواجهة التحديات والأخطار، ولا سيما أننا في بيئة إقليمية مضطربة مليئة بالأعداء والطامعين سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، فالأعداء الخارجيين يسهل معرفتهم وكشف نواياهم وأهدافهم، وبالتالي احتوائهم وتحييدهم أما الأعداء الداخليون الذين يعيشون بيننا، فهم أشد خطورة، حيث يختبئون خلف كثير من الأقنعة، ويغيّرون أساليبهم واستراتيجياتهم إلا أن طبيعتهم وأغراضهم واحدة يسعون لتحقيق مصالحهم بعيداً عن كل المبادئ والمثل والقيم الإنسانية النبيلة، فلا يترددوا في المتاجرة بالأوطان والإنسان في سبيل مصالحهم الشخصية، إن صمتنا وسلبية وتردد الغالبية منا قد مهّدت الطريق لهذه الطحالب أن تطفو على السطح وهيئت لها الظروف، فأصبح أفرادها سادة الزمان وفرسان الميدان، ولكن لا بد لهذا الكابوس من نهاية ولا سيما أن أفكار ومواقف وسياسات هذه الفئة قد أدت إلى أزمة داخلية أبرز مظاهرها الحرمان الاقتصادي والمقت السياسي والغضب الاجتماعي، وبالتالي فإن النهاية المنطقية لهذه الفئة بعد فشل برامجها ونهاية مشروعها هي رحيل أفرادها من الانتهازيين والوصوليين عن مراكز صنع القرار، ولا سيما أن هذه الفئات المنحرفة عاجزة عن فهم نفسية الشعب الأردني الذي يمهل ولا يهمل وهي فاقدة التصور الصحيح لتاريخه وتراثه وتضحياته والمستقبل الذي يطمح إليه.
وبعد ثمان وأربعون عاماً من استشهاد هزاع المجالي فإن عزاءنا أن أنجال الشهيد أمجد وأيمن وحسين هم بيننا تتجدد فيهم روح الفداء والتضحية وخدمة الوطن والشعب والقائد جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين حفظه الله وارث رسالة النهضة العربية الكبرى الذي يولي قضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين جل وقته ويؤكد على قيم الإسلام السمحة التي تنبذ العنف والتطرف والإرهاب ويواصل مسيرة بناء الأردن الحديث وإنشاء دولة القانون والمؤسسات وبناء مجتمع العدالة والمساواة. الرحمة والخلود لشهيدنا دولة السيد هزاع المجالي وطول العمر وموفور الصحة لأنجاله من بعده، أكرر المجد والخلود لكل شهداء الأردن وختاماً قال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي} صدق الله العظيم.


مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات