كيف حافظ الدينار الأردني على استقراره وقوته؟
المدينة نيوز :- يحظى الاستقرار النقدي، الذي يتضمن استقرار سعر صرف العملة والمحافظة على القوة الشرائية لها، بأهمية كبيرة لأي اقتصاد، فهو يعد ركناً أساسياً من أركان الاستقرار الاقتصادي الكلي، الذي من دونه لا يمكن أن تحدث عن تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل، والتخطيط للمستقبل واتخاذ القرارات الصحيحة بشأن الاستثمار والاستهلاك.
مهمة الحفاظ على الاستقرار النقدي، المنوطة بالبنوك المركزية، وتتربع على سلم أولوياتها، لم تكن بالمهمة سهلة في العام 2022، إذ واجهت أسواق العملات الأجنبية عاماً صعباً، وخاصة في الدول الناشئة التي شهدت العديد منها تراجعاً في أسعار صرف عملاتها، في ظل الحالة الكبيرة من عدم اليقين التي يعيشها العالم، والضغوطات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الروسية الأكرانية، وارتفاع معدلات التضخم. الدول العربية لم تكن بمنأى عن ذلك، حيث شهدت خمس دول تراجعاً في قيمة عملتها خلال الفترة الماضية؛ مما أثر على القدرة الشرائية لمواطنيها.
وسط ذلك، قد يتساءل البعض كيف حافظ الدينار الأردني على استقراره وقوته؟ والجواب هو أن الأمر يعود إلى السياسة الحصيفة التي ينتهجها البنك المركزي في الحفاظ على الاستقرار النقدي، مستنداً في ذلك إلى المهنية والمصداقية العالية التي يتمتع بها، والاستقلالية في قراراته.
فخلال العقود الثلاثة الماضية، نجح البنك المركزي في إرساء أسس قوية للاستقرار النقدي والمصرفي في المملكة، رغم التطورات الاقتصادية غير المواتية في العديد من دول المنطقة وما شهدته من تحولات سياسية وأمنية غير مواتية منذ العام 2011، وكذلك الصدمات العميقة التي تعرض لها الاقتصاد العالمي، لا سيما خلال الأزمة المالية في العام 2008 وجائحة كورونا في العام 2020.
وعزز هذا الاستقرار نجاح البنك المركزي في الحفاظ على مستويات كافية من الاحتياطيات الأجنبية، والتي تبلغ حالياً 16.6 مليار دولار، وإدارته الكفؤة للسياسة النقدية وتوظيف أدواتها المتاحة بما يكفل تحقيق هدفه الرئيس المتمثل بالحفاظ على الاستقرار النقدي في المملكة.
وقد أجمعت التقارير الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية، وشركات التصنيف الائتماني، على ملاءمة سعر الصرف الحالي للدينار، وتوافقه مع أساسيات الاقتصاد الأردني.
وهذه المؤسسات لا تجامل في تقييمها المبني على دراسات معمقة، فهي تتمتع بمصداقية عالية على الساحة العالمية، وتعد تقاريرها مرجعاً رئيسياً للمستثمرين الدوليين في قراراتهم الاستثمارية.
الإصلاحات الاقتصادية التي طبقتها المملكة كان لها أيضاً دور في زيادة قدرة الاقتصاد الوطني على مواجهة الصدمات، وتسهيل مهمة البنك المركزي في الحفاظ على الاستقرار النقدي في هذه الظروف، وهذا يؤكد ضرورة مواصلة الإصلاحات الاقتصادية، والالتزام بتنفيذ ما ورد منها في محاور رؤية التحديث الاقتصادي.
في الوقت الراهن، تشهد السياسة النقدية في العالم تحولات هي الأكثر حدة وسرعة منذ أكثر من أربعة عقود في مواجهة الضغوط التضخمية المرتفعة بصفتها العدو الأول للاقتصاد والقوة الشرائية للعملة.
فمنذ الربع الأول من العام الماضي، قامت البنوك المركزية العالمية والإقليمية بالإعلان عن ارتفاعات متتالية وحادة في أسعار الفائدة لمواجهة معدلات التضخم المرتفعة.
فعلى المستوى العالمي، قام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة 8 مرات بواقع 450 نقطة أساس، ومن المتوقع أن يستمر في سياسته خلال العام الحالي على أقل تقدير، وتبع الفيدرالي الأميركي في قراراته العديد من البنوك المركزية في الدول العربية، كالسعودية، والإمارات، والبحرين، وعمان، التي قامت برفع أسعار الفائدة 8 مرات وبنسبة تراوحت ما بين 425-450 نقطة أساس، وهذه الدول تمكنت من المحافظة على الاستقرار النقدي بفضل هذه السياسات. واتجه البنك المركزي الأوروبي نحو رفع أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ العام 2011؛ حيث قام برفع أسعار الفائدة 5 مرات وبواقع 300 نقطة أساس، معلناً عن المزيد من قرارات الرفع خلال الأشهر المقبلة من العام الحالي لاحتواء التضخم، وللغاية ذاتها، رفع البنك المركزي البريطاني (بنك إنجلترا) أسعار الفائدة 10 مرات وبواقع 375 نقطة أساس.
وبدوره، لم يتوان البنك المركزي الأردني عن اتخاذ ما يلزم من إجراءات تضمن المحافظة على الاستقرار النقدي، وثبات سعر صرف الدينار الأردني، من خلال توظيف أدوات السياسة النقدية بما يضمن تحقيق ذلك الهدف، وفي مقدمتها أداة سعر الفائدة؛ حيث قام برفع أسعار الفائدة 8 مرات منذ الربع الأول من العام 2022 وحتى الوقت الراهن، وبواقع 450 نقطة أساس، وبما يتوافق مع الارتفاعات الملموسة في أسعار الفائدة في الأسواق المالية العالمية والإقليمية خلال الفترة الماضية.
البنك المركزي الأردني، أكد بصورة مستمرة أن قراراته تنصب نحو تحقيق هدفين أساسيين:
-أولهما المحافظة على ثبات سعر صرف الدينار الأردني كعملة جاذبة للادخار، وذلك يتطلب وجود هامش فائدة ملائم بين سعر فائدة الإيداع بالدينار وبين أسعار فائدة الإيداع بالعملات الأخرى لصالح الدينار. ومما عزز من ثبات سعر الصرف تدفق العملات الأجنبية إلى الاقتصاد، والتي جاءت في العام 2022 من مصادر عدة، أهمها: الصادرات الكلية 12.8 مليار دولار، والسياحة بواقع 5.8 مليار دولار، وحوالات العاملين في الخارج 3.5 مليار دولار، إلى جانب الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي بلغ 888 مليون دولار حتى الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2022.
والهدف الثاني لقرارات البنك المركزي الأردني برفع أسعار الفائدة هو احتواء الضغوط التضخمية الناجمة عن عوامل داخلية مرتبطة بالطلب المحلي، والمحافظة على القوة الشرائية لدخل المواطن.
ولعل المتتبع لانعكاس قرارات رفع أسعار الفائدة في المملكة يلحظ بوضوح عدم الانعكاس الكامل لتلك القرارات على أسعار فائدة الإقراض لدى البنوك، ففي الوقت الذي رفع فيه البنك المركزي أسعار الفائدة بواقع 450 نقطة أساس، إلا أن الزيادة في أسعار فائدة الإقراض لدى البنوك لم تتجاوز 185 نقطة أساس حتى نهاية شهر كانون الثاني (يناير) 2023، وهذا يفسر بأن ارتفاع أو انخفاض أسعار الفائدة على أدوات السياسة النقدية لا ينعكس بشكل آني على القروض، وإنما يحتاج فترة زمنية تتراوح من ثلاثة إلى ستة أشهر، وذلك حسب دورية التسعير المنصوص عليها في العقود المبرمة مع العملاء، هذا إلى جانب أثر المنافسة بين البنوك، وتوفر سيولة كافية قابلة للإقراض في السوق النقدي، علاوة على استمرار البنك المركزي بالعمل في برنامجيه للتمويل المدعوم التي يتيحها للبنوك بأسعار فائدة متدنية وثابتة للتمويل الممنوح. من جهة أخرى، تكشف البيانات أن نحو 63 % من تسهيلات البنوك تم منحها وفقاً لسعر الفائدة الثابت، أي أنها لا تتأثر بالتغيرات في أسعار الفائدة سواء ارتفاعاً أو انخفاضاً.
كما تشير أحدث البيانات الصادرة عن البنك المركزي الأردني، إلى ارتفاع التسهيلات الائتمانية بنسبة 8.5 %، أو ما قيمته 2.6 مليار دينار، في العام 2022، كما حافظت هذه التسهيلات على زخم نموها في شهر كانون الثاني (يناير) 2023 محققة نمواً بنسبة 8.9 % بالمقارنة مع الشهر ذاته من العام 2022، وذلك بالرغم من قرارات رفع أسعار الفائدة. ويلاحظ أن هذه الزيادة في التسهيلات لم تكن متركزة في قطاع معين، بل وتوزعت على مجمل القطاعات الاقتصادية، أهمها الإنشاءات، والصناعات التحويلية، والتجارة العامة، إلى جانب القروض الاستهلاكية للأفراد.
كما وسجلت ودائع العملاء نمواً بنسبة 6.5 %، أو ما قيمته 2.6 مليار دينار في العام 2022، وحققت نمواً بنسبة 6.1 % في نهاية شهر كانون الثاني (يناير) 2023، وشكلت الزيادة في الودائع بالدينار حوالي 87.3 % من إجمالي الزيادة في الودائع. وما كان لهذا أن يتحقق دون المحافظة على هامش سعر فائدة يميل لصالح الدينار مقابل العملات الأجنبية الأخرى، إلى جانب تمتع الجهاز المصرفي بالمتانة والثقة.
الجميع يتفق على أن هناك سلبيات لرفع أسعار الفوائد على النشاط الاقتصادي على المدى القصير، ولكن يجمع الاقتصاديون على أن تراخي البنوك المركزية في مكافحة التضخم ستكون تكلفته عدم القدرة على الحفاظ الاستقرار النقدي، ويحمل الاقتصاد تكاليف أكبر على أركان الاستقرار الاقتصادي الكلي على المديين المتوسط والطويل، خاصة إذا ما علمنا أن الارتفاع في أسعار الفائدة هو حركة طبيعية تواكب الدورات الاقتصادية، ولن تبقى في مستويات مرتفعة، فالمعطيات تشير إلى أن أسعار الفائدة ستستمر في منحى تصاعدي خلال العام الحالي، ومن ثم يتوقع أن تستقر عند تلك المستويات المرتفعة في العام 2024، قبل أن تبدأ بعد ذلك بالاتجاه نزولاً.
وعلى الرغم من ذلك، لم يغفل البنك المركزي الأردني عن الآثار السلبية لرفع سعر الفائدة على النشاط الاقتصادي في المدى القصير، إذ نجح في إيجاد معادلة تضمن الموازنة بين متطلبات تحقيق الاستقرار النقدي، من جهة، وبين دعم النمو الاقتصادي من جهة أخرى؛ إذ عمل البنك على تثبيت أسعار الفائدة ضمن برنامجيه للتمويل الميسر، سواء ضمن برنامج تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة الذي تبلغ قيمته 700 مليون دينار، والذي استحدثه البنك خلال جائحة كورونا، حيث بقيت أسعار الفائدة ضمنه لا تتجاوز في حدها الأعلى 2 %، أو برنامج إعادة تمويل القطاعات الاقتصادية الحيوية البالغة قيمته 1.4 مليار دينار، حيث يبلغ سعر الفائدة ضمنه 1.0 % للمشاريع المستفيدة داخل محافظة العاصمة، و0.5 % للمشاريع المستفيدة في باقي المحافظات.
"الغد -سلامة الدرعاوي"