في يومها العالمي.. لتبقى العين ساهرة على القدس
قولان مأثوران لصهيونيين ساهما في صياغة الفكر الصهيوني يختصران اهمية مدينة القدس: الاول للاب الروحي للحركة الصهيونية ثيودور هرتسل الذي قال خلال كلمة له في مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897: "لو حصلنا يوما على القدس، وكنت لا ازال حيا، فسوف ازيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود، وسأدمر الآثار التي مرت عليها القرون". والثاني هو لأول رئيس وزراء للكيان الاسرائيلي ديفيد بن غوريون الذي قال: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل.. ومن الصواب أن تعيد إسرائيل للعرب جميع الأراضي ما عدا القدس والجولان والمناطق التي أنشئت فيها مستوطنات في الضفة الغربية".
وفي مقابل هذين الموقفين، هناك المئات بل آلاف المواقف من زعماء لدول عربية واسلامية تتحدث عن القدس ومكانتها واهميتها لدى العرب والمسلمين، لكن هذه المواقف لم تتجاوز جدران القصور الملكية والرئاسية، وربما لم تصل الى اسماع من يجب ان يسمع حقيقة الموقف العربي والاسلامي.. وبين هذا وذاك خرج من يعتبر ان القدس هي جزء من حالة الصراع بين المؤمنين بأرضهم وحقهم والمنافقين الذين يرتمون في احضان امريكا والدول الغربية.. هؤلاء الذين لم يرق لهم ان يخرج الامام الخميني في السابع من آب عام 1979 ليعلن يوم الجمعة الاخيرة من شهر رمضان يوما عالميا للقدس، وليجعل من حناجر عشرات الملايين وفي يوم واحد تصدح بصيحات التأييد للقدس وبالدعوات الى تحريرها..
لا تحتاج القدس لكثير من كلام كي نبين قدرها واهميتها وقدرتها على جمع الشرق والغرب من حولها في مواجهة مخطط صهيوني استعماري يسعى ليس فقط لتشريع احتلال المدينة والسيطرة عليها، بل وتزوير تاريخها، باعتبارها ارضا لعاصمة احدى ممالك اسرائيل عبر التاريخ، بل ان الجزء الاكبر من عمليات التزوير التاريخي طال مدينة القدس اكثر من اي مدينة فلسطينية اخرى. واستند ذلك المخطط على مسارين متلازمين: سياسي عبر احكام السيطرة على المدينة من خلال تقسميها ديمغرافيا واداريا وديني توراتي عبر العمل على تهويدها وتغيير طابعها العربي والاسلامي..
ويمكن الملاحظة انه لم تتعرض مدينة من المدن الفلسطينية لعملية استهداف بهذه الضخامة كما تعرضت القدس، من خلال عمليات مصادرة الأراضي لاغراض الاستيطان وتهجير سكانها وفرض الاجراءات التمييزية ضدهم ومحاربة الوجود الفلسطيني فيها، وكل هذا في اطار عملية ممنهجة هدفت الى تغيير معالمها بعشرات القوانين والأنظمة التى سنتها إسرائيل لتهويد المدينة ومنها قوانين التنظيم والبناء او ما يسمى قانون أملاك الغائبين الذي يطال مدينة القدس بأرضها وسكانها اضافة الى اجراءات ومخططات تهدف الى أسرلة المدينة وغير ذلك من سياسات تتحرك بشكل يومي لاحكام السيطرة على المدينة بشكل كامل بما ينسجم مع رواية مزعومة تستند الى اساطير وخرافات تاريخية..
ورغم كل ما فعله الاحتلال منذ احتلال المدينة وحتى الآن، الا ان حالة الصمود والتجذر بالارض والاصرار على مواجهة السياسات الاحتلالية هي السمة الاساسية في صراع الاحتلال مع ابناء المدينة. وليس غريبا ان القدس دائما ما يكون لها بصمة واضحة في كل عمليات المواجهة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني، وها هي اليوم تعود من جديد لتتقدم صدارة النضال الفلسطيني ولتقدم لوحة عز وكرامة، في وقت سقطت فيه كل الكرامات، وهذا ليس غريبا على المقدسيين الذين باتوا يمدون جميع المقاومين على مساحة العالم بالعزيمة والايمان بحتمية افشال المشروع الصهيوني بشأن القدس..
واذا كانت القدس هي القادرة على جمع العرب والمسلمين والاحرار على مساحة العالم.. فالتساؤل المشروع هو عن اسباب لجوء بعض الدول العربية الى طعن القدس واهلها بالظهر والذهاب بعيدا نحو التطبيع مع الاحتلال قبل ان تتحرر وقبل ان يلتزم الاحتلال بالحد الادنى مما تتحدث عنه القوانين الدولية باعتبارها مدينة فلسطينية محتلة. وليس هناك من اجابة سوى ان قرارات التطبيع لم تكن صناعة او مصلحة عربية، بل جاءت استجابة لضغوط امريكية بذرائع اكدت الاشهر الماضية كذبها وعدم صحتها، ما يؤكد ان هذه الانظمة فقدت ارادتها على صياغة قراراتها بحرية، خاصة ان القدس ليست مجرد مدينة بل قيمة انسانية واخلاقية ذات ابعاد متعددة قانونية وسياسية وتاريخية. وقلما اجتمعت هذه الصفات في مدينة على مستوى العالم. لذلك نقول: ان الدفاع عن القدس هي ليست مهمة الشعب الفلسطيني فقط، وان كان يشكل رأس حربة في هذه المعركة، بل هي مهمة كل احرار العالم، ومن اراد ان يضع نفسه خارج هذا التوصيف فقد خسر.
اليوم لا يمكن ان نفصل بين ما يحدث في القدس من اقتحامات واستفزازات شبه يومية وبين المشاريع والمخططات الصهيونية التي تهدف الى فرض وتكريس السيطرة وتعزيز ما يسمى "السيادة الاسرائيلية" على المدينة، سواء عبر سن القوانين الصهيونية العنصرية والتمييزية، او تكثيف الضغوط على المقدسيين لتهجيرهم والتخلي عن ارضهم، بهدف الحفاظ على ما سمي "بقاء المدينة نقية في يهوديتها" تكريسا لقانون القومية اليهودية الاسرائيلية الذي لا يرى في فلسطين التاريخية الا اليهودي فقط..
ويحاول الاحتلال فرض هذا المشروع بشكل تدريجي، اعتقادا منه انها الطريقة الافضل لعدم استفزاز العالمين العربي والاسلامي اللذين لديهما حساسية معينة تجاه مدينة القدس تحديدا، وهنا تكمن اهمية ان يكون للقدس يوم تكون فيه حاضرة في الشوارع لتذكير العالم بأن القدس خط احمر. لذلك فأن الموقف الاسرائيلي، الذي ينطلق من التمسك بمدينة القدس الموحدة كعاصمة لدولة الاحتلال مستقويا بمواقف الادارة الاميركية واتفاقات التطبيع، بات يطرح تحديا حقيقيا على جميع الاطراف الفلسطينية والعربية والاسلامية ليضعها امام مسئولياتها في تحويل معركة الشجب والادانة الى معركة شاملة لافشال المشروع الاسرائيلي.
ليس سرا القول ان القدس حاضرة وبشكل كبير على اجندة الحكومة الاسرائيلية الحالية، وهي كانت احدى العناوين الاساسية في الحملات الانتخابية للاحزاب الاسرائيلية خاصة احزاب الصهيونية الدينية واليمين المتطرف الذين يعملون على تطبيق ما وعدوا به بشكل حرفي، وما الاقتحامات شبه اليومية للقدس ولساحات المسجد الاقصى الا واحدة من هذه الوعود. وتتردد في وسائل الاعلام هذه الايام الكثير من المعطيات المضللة ذات المنبع الاسرائيلي ومفادها ان اسرائيل واجهزتها الامنية والاستخباراتية تحذر من تصعيد في العمليات خلال شهر رمضان، وينصحون بتخفيف بعض الاجراءات المفروضة في مدينة القدس بشكل خاص، وهذا ما فعله رئيس وزراء العدو حين اعلن منع عمليات الاقتحام للمسجد الاقصى خلال الايام العشر الاخيرة من شهر رمضان، وهو امر لم يأت الا خوفا من ردات فعل فلسطينية وخارجية محتملة، وليس استجابة لضغط امريكي او وهم بأن هذا القرار هو استجابة لما تقرر في لقائي العقبة - شرم الشيخ الامنيين، اللذين لم تعرهما اسرائيل ولن تعيرهما اي اهتمام.
لذلك لا يجب ان نُخدع من اي اجراء ستتخذه اسرائيل خلال الايام القادمة تحت عنوان تخفيف الاجراءات، بما فيها تدابير اقتصادية في الضفة الغربية، او اعلان مؤقت عن تأجيل المباشرة في بناء وحدات استيطانية، رغم كذبها، وتخفيف الاحتكاكات في بعض المواقع، وهي كلها مجرد اكاذيب تؤكدها التطبيقات الميدانية على الارض حيث الجرائم لا زالت متواصلة بمختلف اشكالها، والاستيطان يسير وفقا لما هو مخطط له وعمليات الاعتقال تجري بشكل يومي، وتهجير السكان وهدم منازلهم بات امرا روتينيا..
يبدو ان عين العدو الاسرائيلي في مكان آخر وعلى قضية اخرى غير متعلقة لا باجراءات اقتصادية ولا بعمليات استيطانية ولا حتى بقصايا امنية حتما ستتواصل ضد الشعب الفلسطيني.. بل ما يجب الانتباه اليه وان يكون موضع مراقبة جيدة من قبل فصائل المقاومة ومن قبل قيادات ومناضلي المقاومة الشعبية هو ما تسعى اسرائيل لتمريره خلال شهر رمضان بفرض مخططها القديم الجديد: التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الاقصى، لذلك نقول ان العين يجب ان تبقى ساهرة على القدس وما يخطط لها من قبل العدو..
ان معركة القدس هي معركة كل الشعب الفلسطيني في جميع اماكن تواجده، وهي ايضا معركة المصير الفلسطيني وعليها يتوقف مسار العملية الوطنية خلال المرحلة القادمة، ولا يستقيم الامر بين مخططات اسرائيلية يسعى الاحتلال لفرض تطبيقها بالدم والنار وبين رهان على ضمير امريكي وموقف ضاغط على الاحتلال، على شاكلة المسار الامني الذي افتتح في العقبة وشرم الشيخ بمشاركة مباشرة وحماسية من السلطة الفلسطينية في وقت بدأ الشعب الفلسطيني ومقاومته يفرضون انفسهم على السياسة الاسرائيلية والامريكية، وكأن هناك من لا يريد للحالة الفلسطينية ان تتقدم الى امام وان تتطور بفعالياتها الوطنية الرافضة للاحتلال ومخططاته. لكن رغم كل ذلك، وكما قال العدو نفسه في المراحل التي اعقبت النكبة ان عقارب الساعة لن تعود الى الوراء، ولأن القدس كانت ولا زالت وستبقى جزءا لا يتجزأ من الارض الفلسطينية ومحور التاريخ الفلسطيني، العربي والاسلامي.. فمن اجل كل ذلك يجب ان تنتصر في معركتها في وجه الغاصبين المحتلين وفي وجه داعميهم من القتلة والمجرمين..
فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين