رمضان في الأردن.. زخم المشاعر الإيمانية والتكافل الاجتماعي واستعادة الموروث
المدينة نيوز :- عندما تُلقي العشر الأواخر في رمضان بظلالها، تستحضر ذاكرة الأردنيين بدايات الشهر وتلك الاستعدادات المُبكّرة، فيكون لسان حال الناس: أيامه ولياليه العظيمة مرّت سريعةً وسط مشاعر الارتباط الروحي بين المسلم وشهر رمضان الذي يعيش الناس في ثلثه الأخير تحري ليلة القدر.
ورمضان في الأردن سيرةٌ طويلةُ التفاصيل إيماناً وإحساناً وتكافلاً، فهو الشهر الذي يستنفر مشاعر الأردنيين باكراً، فمع بداية شهر شعبان، ترتفع وتيرة الاستعداد المزدحمة بالكثير؛ إذ تزداد بهجة قُرب رمضان يوماً بعد اليوم، وينشط أئمة المساجد في تحضيرها لاستقبال حشود المصلين، أما الأسواق فتتغيّر معالمها جرّاء الزينة والحاجيات والمأكولات الرمضانية، ليس هذا فقط، بل يزداد حديث الناس عن التسامح والرحمة والإصلاح وصلة الرحم والمحبة والإخاء .
وفي رمضان يعمل الأردنيون بشغفٍ وهم يستعيدون ذاكرة رمضان القديمة، بما فيها من العادات والتقاليد الأصيلة التي يعملونها بكل فرح، فمداخل البيوت وشُرفاتها والمؤسسات والطرقات تزخر بالزينة بأشكالٍ تجعل من رمضان شهراً له قيمته الإيمانية المتفردة.
إن استقبال رمضان ليس كأي وقت آخر، إذ تعتبر عمان القديمة (وسط البلد) أجمل الأماكن التي يرتادها الزوار للاستمتاع بمشاهدة الزينة وتناول الحلوى والعصائر والمأكولات والجلوس في المقاهي والساحة الهاشمية والمدرّج الروماني الذي يحتضن العديد من الفعاليات.
ولأن الحسنة في رمضان بعشرةٍ، تملأ موائد الرحمن المساجد والبيوت والدواوين، وتنتشر بين الأردنيين العزائم والدعوات الموجهة للأقارب والأصدقاء ومساعدة المحتاجين والفقراء وإخراج زكاة الفطر، فتلتقي القلوب على فعل الخير وتتسابق في تخفيف الأعباء المالية على المعوزين.
وفي رمضان تزداد بين العائلات الأردنية الزيارات واللقاءات الجماعية حول مائدة الطعام، فحتى اليوم تحافظ بعض القرى والأحياء الشعبية على إرثٍ قديم تراجع في عصرنا كثيراً، هو تبادل أطباق الطعام قبل آذان المغرب، في عادةٍ اجتماعية تسمى "المساكبة" حتى تغدو سفرة الإفطار "بوفيها مفتوحا"، تسوده أجواء التراحم والمحبة والألفة.
ولأن الأردن استقبل أعداداً كبيرة من اللاجئين الباحثين عن الأمان، يتسابق "النشامى" نحو فعل الخير بالمناطق والمخيمات التي تشهد خلال الشهر الفضيل مبادرات وحملات توزيع المواد الغذائية والعينية بكل أنواعها.
وتصدح المساجد بالآذان في كل مناطق الأردن، حيث يبلغ عددها بنحو سبعة آلاف مسجد ومصلى، ويزيد الإقبال على أداء الصلوات الخمس وصلاة التراويح في المساجد وتلاوة القرآن والأذكار وتنظيم حلقات الوعظ والإرشاد والتوعية الدينية.
أما المجالس العلمية الهاشمية التي تعقدها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية سنوياً خلال شهر رمضان المبارك برعاية ملكية سامية بعنوان "وقفيات جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين للكراسي العلميّة"، يشارك فيها كوكبة من العلماء والدعاة وأصحاب الفكر من العالم الإسلامي بحضور جلالة الملك أو مَن ينوبهم من الأمراء، يناقشون قضايا وهموم الأمة الإسلامية ومشاكلها وفق منهجية علمية مع الحكمة والوسطية، وإبراز دور العلماء في توجيه الأمة وبيان أحكام الشرع الشريف والتأكيد على وسطية رسالة الإسلام والدعوة لها بالحكمة والموعظة الحسنة.
وللثقافة والفن حضورٌ في رمضان بالأردن، إذ تنظم وزارة الثقافة ووزارة السياحة والمراكز الشبابية، الأمسيات الرمضانية التي تتضمن الأنشطة الثقافية والمسابقات والألعاب والغناء والأمداح والإنشاد التي تُقام في الساحات العامة في مختلف محافظات المملكة. ورغم تنوع وسائل التكنولوجيا الحديثة التي يستخدمها الإنسان للاستيقاظ لتناول "السحور"، وكذا التغير الذي طرأ على نمط وأسلوب الحياة، فإن شخصية (المسحراتي) في الأردن لا تزال حاضرة في بعض الأحياء ولو بشكل محدود جدا، حيث يتطوع شخص ما للقيام بهذا العمل إيمانا منه بضرورة الحفاظ على هذا الموروث الثقافي الذي ارتبط بشهر رمضان ولفترة طويلة من الزمن.
إن دخول الأدوات التكنواتصالية غيّر الكثير من العادات الرمضانية، وحدَّ من اللقاءات الجماعية، إلا أن روحانية رمضان ومعانيه، تعيد الأردنيين إلى حالة الانسجام والتكافل الاجتماعي الذي يزيده الترابط العشائري والنشاط الخيري للجمعيات فيصبح المجتمع الأردني في رمضان أكثر قرباً ومشاركةً ومساعدةً وإقامةً للولائم العامة والخاصة.
ومن تلك الولائم هي التي يقيمها الأخوة المسيحيون لأخوتهم المسلمين في عمّان والمحافظات، ففي الأردن يجد العائد إلى بيته وقت الغروب، شبان يوزعون الماء والتمر عند التقاطعات، وعلى الطريق الصحراوي في الأردن تُقام الولائم الخاصة بالمارين عبرها، إلى جانب أخوةٍ من الشباب المسيحيين الذين ينظمون مبادرات "إفطار صائم"، كما تقيم بعض الكنائس الإفطارات الرمضانية التي تجسّد حالة الوئام والعيش ضاربةً أروع الأمثلة في المودة والتآخي بين أبناء الوطن الواحد .
والمائدة الأردنية الرمضانية متنوعة، فهي لا تختلف كثيراً عن مائدة الطعام في بلاد الشام وبعض الدول العربية، فقديماً كانت الأكلات الشعبية البسيطة غير مكلفة وتعتمد على مكونات القمح واللبن والسمن واللحم والعدس والقليل من الخضار.
أما اليوم، تزخر المائدة الرمضانية في الأردن بالعديد من الوجبات المتنوعة بأسمائها وأشكالها، حيث تشتمل إضافة إلى التمر والماء اللذين يسبقان صلاة المغرب، على "الحساء" التي من أشهر مكوناتها العدس أو الخضار أو "الشعيرية" أو الفطر أو مرق الدجاج، وكذا تهتم المائدة الأردنية بوجود أنواعٍ عدة من "السَلطة" المكونة من مختلف أنواع الخضار إضافة إلى بعض "المقبلات" مثل الحمص والمتبّل والمخللات والألبان إلى جانبها الطبق الرئيسي الذي يحتوي غالباً على الأرز مع اللحم أو الدجاج، أو أطباق الدجاج مع الخضار أو "المحاشي" أو الأكلة الوطنية الأردنية الشهيرة "المنسف" الذي يعتبر سيد المائدة، وهو عبارة عن وجبة شعبية يتم إعدادها بالأرز واللحم "البلدي" واللبن "الجميد" وخبز الشراك "الصاج"، كما تشتهر المائدة الأردنية بحلوى "القطايف" الشهيرة التي تُعد الحلوى الرئيسية التي لا يأكلها الأردنيون إلا في رمضان فقط، إضافة إلى حلوى "الكنافة" والحلويات الشعبية مثل العوامة وكرابيج حلب وأصابع زينب والهريسة وغيرها .
وللعصائر بالأردن طقوسٌ لم تتغيّر رغم الحداثة، فمنذ ستينيات القرن الماضي كان الأردنيون في وسط البلد بعمّان وفي الأسواق القديمة بالمحافظات، يتزاحمون على ابتياع العصائر التي هي إحدى المكونات الرئيسية بالموائد.
ومع بداية الشهر الفضيل ينتعش قطاع العصائر الرمضانية الذي تنشط حركة شرائها وبيعها في المحال والطرقات والأسواق في طقوسٍ مستمرة يحرص الأردنيون عليها كل عام، فلا يكاد يخلو مفترق طرق من منادٍ ينادي على بيع أشهر العصائر لدى الأردنيين كالتمر الهندي والعرق سوس والخروب والليمون وقمر الدين.
وترتفع الصلوات في العشر الأواخر من رمضان، ويُصلي الأردنيون حتى الفجر ليلة السابع والعشرين (ليلة القدر)، ثم يتهيؤون لدفع زكاة الفطر فيما يسمونه أيام الجبر؛ أي جبر خواطر الفقراء والمحتاجين، وتعلو الحناجر التي تقول: لا أوحش الله منك يا رمضان يا شهر الكرم والإحسان يا شهر الخير والإحسان.
والليالي الأخيرة من رمضان تزدحم الأسواق والساحات الأردنية باستعدادات العيد وشراء الملابس والمأكولات والحلوى، وتعم الفرحة في مصليات العيد، حيث تحدد وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية أماكن وساحات لصلاة العيد خارج المساجد، ويتبادل المسلمون بعدها التهاني والزيارات وإقامة موائد العيد ويحرص العديد من الأردنيين زيارة المقابر وقراءة الفاتحة على المتوفين الأقارب والمعايدة على كِبار السن والأرحام، وتعلو أصوات الأطفال بلباسهم الجديد فرحين بالعيد الذي ختم فيه المسلمون أداء شهر الصيام المبارك .
زياد الشخانبة - (بترا)