تحليل للخطاب الانتخابي في تركيا.. هكذا فاز أردوغان
المدينة نيوز :- نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريرا بقلم تانيا غودسوزيان ومراد أسلان، قالا فيه إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثبت خطأ منتقديه من خلال حسمه للانتخابات الرئاسية.
وشدد الكاتبان على أن خطاب أردوغان كان جذابا مقارنة بالحملة الانتخابية لمنافسه في جولة الإعادة كمال كليتشدار أوغلو، ما مكن الرئيس التركي من الاستمرار في منصبه.
وسلّط التقرير الضوء على خطابات أردوغان القومية، حيث توجه الرئيس التركي إلى قلوب وعقول الأتراك عبر أغاني الحب، مستفيدا من قدراته الخطابية المتميزة، فيما اقتصرت حملة منافسه كليتشدار أوغلو على ذكر مشاكل تركيا دون تقديم حلول لها.
وبحسب المقال، فقد ركزت حملة أردوغان على تذكير الناخبين بإنجازاته أثناء فترته الرئاسية الأولى، والحديث عن خططه المستقبلية من أجل الأمة التركية، إضافة إلى طرح قضية الأمن الداخلي.
في المقابل، اعتبر الكاتبان أن خطاب كليتشدار أوغلو كان مليئا بالتناقضات، من خلال تقديمه وعدا باستئناف العلاقات مع النظام السوري، وفي الوقت ذاته تعهد بفرض عقوبات على روسيا واتباع سياسات الولايات المتحدة.
وشدد المقال على أن أردوغان أسر بحذاقة مخاطبيه من المحافظين والقوميين على حد سواء، فيما حاول كليتشدار أوغلو الاستثمار في هويته العلوية، ما اعتبره الكاتبان "مقاربة خطيرة جزئياً"، لأن الطائفية مبغوضة في التقليد السياسي التركي، وفق تعبيرهما.
وتاليا التقرير كاملا :
ظهرت نتائج جولة الانتخابات التي جرت الأسبوع الماضي أسرع مما كان متوقعاً. فبحلول الساعة السابعة مساء بتوقيت إسطنبول (الرابعة عصراً بتوقيت غرينتش) بات جلياً أن الرئيس رجب طيب أردوغان قد فاز بفترة رئاسية أخرى بنسبة تزيد قليلاً على الـ52 بالمئة من الأصوات.
كان من المفروض أن يلقي خطاب النصر من شرفة القصر الرئاسي في أنقرة في وقت لاحق من تلك الأمسية، إلا أن الرئيس التركي البالغ من العمر تسعة وستين عاماً ظهر فجأة في بث مباشر وهو يقف أمام ثلة من أنصاره تجمعوا أمام منزله في قصقلي بإسطنبول.
وبدلاً من أن يدلي بواحد من خطاباته القومية التي غدت من سماته المميزة، فإنه راح ينشد أغنية.
لقد كانت تلك هي أغنية العشق التركية الشهيرة، "إلى أولئك الذين لا يستطيعون السمع"، والتي تعود على ترديدها طوال حملته الانتخابية. إلا أنه كان لها مساء الثامن والعشرين من أيار/ مايو وقع خاص، وحملت في تلك اللحظة رسالة موجهة.
لقد أثبت هذا الشعبوي البارع، والمستمر في السلطة منذ أكثر من عقدين من الزمن، أن ناقديه كانوا خاطئين. فبدلاً من النأي بنفسه عن الناس، أدرك أن أفضل ما يمكن أن يفعله عندما يجد الجد هو التوجه إلى قلوب وعقول الأتراك عبر أغاني الحب، التي أثبتت أنها أكثر فعالية من سرد الإحصائيات الاقتصادية، أو شن الهجمات التشهيرية، أو نشر الأشرطة الجنسية الفاضحة لإخراج خصومه من السباق الانتخابي. وهذه الأخيرة بدت بوضوح هي الاستراتيجية التي لجأ إليها منافسه كمال كليتشدار أوغلو الذي يبلغ من العمر أربعة وسبعين عاماً.
منذ عام 2002، برع أردوغان في ابتكار استراتيجية تواصل تمكنه من النفاذ إلى القلوب ليس فقط داخل تركيا بل وفي أرجاء المنطقة بأسرها.
سواء من خلال الترويج للنموذج التركي من الديمقراطية الإسلامية أو من خلال التنديد بإسرائيل لعدوانها على السفينة التركية التي كانت متوجهة إلى غزة في عام 2010، لم يخفق مرة في الظهور كزعيم للمستضعفين والمظلومين أو لعامة الناس العاديين.
وبرز أردوغان كمتحد للإمبريالية الغربية، ولا أدل على ذلك من خطابه الحماسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2016 والذي أعلن فيه أن العالم أكبر من مجرد خمسة، وهو الخطاب الذي تحول إلى ترنيمة تتردد كل حين، وخاصة عندما تقاوم أنقرة الضغوط التي تمارس عليها من أجل الخضوع للإملاءات الصادرة عن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي.
ولكن بعد عقدين من الزمن، زعم كثيرون أنه فقد السيطرة على هذه السردية في خضم أزمة اقتصادية غير مسبوقة، والأهم من ذلك أنه فقد الصلة بعامة الناس.
ظن ناقدوه – وخشي أنصاره – أن يكلفه ذلك منصب الرئاسة.
فكيف تمكن أردوغان من تحقيق الانتصار؟ بادئ ذي بدء قد يتأمل المرء في الصورة التي قدمها للناخبين عن نفسه.
بدا أردوغان مستقلاً في قراراته قادراً على الحكم على الأمور، وسياسياً ذا وزن معتبر في المنطقة بل وعلى الساحة العالمية كذلك. وبالنظر إلى كونه خطيباً، ويعود الفضل في ذلك ولو جزئياً إلى ما تلقاه من تعليم ديني في مدرسة الإمام والخطيب، كان أردوغان يتمتع بمهارة فائقة في إلقاء الخطب، مكيفاً إياها، من حيث المحتوى والنبرة، لتناسب الجمهور الذي يتوجه إليه.
ومن خلال اللجوء إلى الأغاني الشعبية كلازمة في حملته الانتخابية، أسر أردوغان بحذاقة مخاطبيه من المحافظين والقوميين على حد سواء.
إلا أن مهمته لم تكن يسيرة وهو يذب عن نفسه ما قذفه به المعارضون من تهم، وما رموا به حكومته من إهمال وتباطؤ في التعامل مع الآثار المدمرة للزلازل ومن سوء إدارة لجهود الإغاثة.
ما من شك في أن إدارة الأمور المتعلقة بالسمعة وبما يتشكل لدى الناس من انطباعات، أشد خطورة في حالة المرشح الذي ما زال على رأس عمله في الحكم، وخاصة في ظل معاناة البلاد من آثار كارثة طبيعية كبيرة ومن أزمة اقتصادية خانقة. في نفس الوقت، تشكل مثل هذه الظروف بالنسبة للمنافسين فرصة ذهبية.
من ناحيته، حاول كمال كليتشدار أوغلو تقديم نفسه على أنه رجل عادي متواضع، وهذا ما فُهم من مقاطع الفيديو التي نشرت له في حملته المبكرة وهو جالس على مائدة المطبخ – في إشارة واضحة إلى الرغبة في التعبير عن التضامن مع المواطن الذي يواجه أوضاعاً اقتصادية صعبة وغلاء شديداً في أسعار الأطعمة. ويبدو أنه كان في ذلك يحاكي ما فعله بيل كلينتون في حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 1992.
في عام 1991، ومع انتهاء عملية عاصفة الصحراء، حصل الرئيس جورج إتش دبليو بوش على نسب تأييد غير مسبوقة بلغت 89 بالمئة، وذلك أن تلك العملية اعتبرت نصراً كبيراً للقوات الأمريكية. إلا أن بيل كلينتون هو الذي فاز بالرئاسة في نهاية المطاف، حيث خدمه في ذلك تركيزه على قضايا ذات صلة بمائدة المطبخ المنزلي، والتي لخصتها عبارته الشهيرة "إنه الاقتصاد أيها الأحمق".
إلا أن كمال كليتشدار أوغلو ليس بيل كلينتون، بل إن أردوغان هو الذي يشبه كلينتون في ما يتمتع به من قدرة على مخاطبة الناس. لقد أسر أردوغان قلوب الجميع عندما غنى مبتهجاً في أحد الأعراس بينما أخفق كليتشدار أوغلو في هذا المجال. وتشكل الانطباع عنه بأنه جاف ونظري وممل، تنقصه الجاذبية وتنعدم لديه الكاريزما.
بل قارنه البعض بغاندي في تعهده بالنضال من أجل قيم الديمقراطية النبيلة وفي سبيل الإصلاح.
مقاربات متباينة
أثناء الحملة الانتخابية، استخدم أردوغان استراتيجية من شعبتين، الأولى تذكير الناخبين بإنجازاته أثناء فترته الرئاسية الأولى، والثانية الحديث عن خططه المستقبلية من أجل الأمة التركية.
إلا أن المعارضة أخذت عليه استخدامه لوسائل الإعلام التركية من أجل تسليط الأضواء على استكمال مشاريع البنية التحتية الكبيرة وعلى النمو الهائل في قطاع الصناعات الحربية التركية.
ومع ذلك، فإنه ليس من غير الشائع أن تكون لدى المرشحين من أصحاب المناصب ميزة انتخابية، فهم يحظون باهتمام إعلامي أكبر وتنال حملاتهم تغطية أوسع، وذلك ببساطة لما يمثلونه من قيمة إخبارية.
ولكن، في مقال نشر في الواشنطن بوست في عام 2017، خلص ثلاثة باحثين إلى أنه على الرغم من أن المرشحين من أصحاب المناصب يحظون بنصيب الأسد في التغطية الإعلامية، فلا يعني ذلك بالضرورة أنه يساعد حملاتهم.
فوسائل الإعلام في العادة تحمل الحكومة المسؤولية عن المشاكل التي يواجهها البلد، ما يحيل التغطية الإعلامية إلى عبء أكثر منها مكسباً. ومن الواضح أن طريق أردوغان لم يكن معبداً بالورود. فلم تدخر وسائل الإعلام المحلية وسعاً في الحديث عن المشاكل الاقتصادية التي تواجه المواطن التركي العادي، وعن انهيار الليرة التركية، وارتفاع التضخم، وغلاء أسعار المواد الغذائية، وتداعيات الزلازل المدمرة.
يقول مراد يزيلتاس، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أنقرة للعلوم السياسية، إن منصة الاتصال التابعة لأردوغان نأت بنفسها عن هذه المواضيع لتركز بدلاً من ذلك على السياسة الخارجية وقضايا الدفاع والأمن، بينما كان كليتشدار أوغلو يركز على الوضع الاقتصادي المتأزم في البلد وعلى مسائل تتعلق بالديمقراطية.
يقول يزيلتاس: "لم يتأخر أردوغان في الرد على وعود كليتشدار أوغلو من خلال رفع أجور العاملين من العائلات منخفضة ومتوسطة الدخل، وكذلك من خلال تسليط الضوء على الإصلاحات التي بدأها في السنوات الأولى من الألفية الحالية.".
وركز أردوغان على قضايا الأمن الداخلي، واشتمل خطابه المتطلع إلى المستقبل على شعارات مثل "لن نتنازل أمام الإرهاب" و"سوف يعود اللاجئون بموجب القانون بشكل طوعي".
في المقابل جاءت استراتيجية التواصل التي انتهجها كليتشدار أوغلو قاصرة بسبب التركيز الضيق والمنفرد على انتقاد إدارة أردوغان دون اقتراح بدائل أو حلول.
وفي ذلك يضيف يزيلتاس: "كان يضع أصبعه على المشاكل ولكن بدون أن يقترح حلولاً أو بدائل".
ثم جاءت تناقضاته التي لا تعد ولا تحصى عبر منصة ائتلافه. فعلى سبيل المثال حاول كليتشدار أوغلو الاستثمار في هويته العلوية فيما قد يكون محاولة منه لإثبات أنه يمثل جميع الأتراك بغض النظر عن العرق أو الدين.
كانت تلك مقاربة خطيرة، جزئياً لأن الطائفية مبغوضة في التقليد السياسي التركي، ولكن أيضاً لأن ائتلافه اشتمل على فرقاء متشاكسين يندر أن يجتمعوا على سياسات مشتركة، وخاصة الأحزاب التركية ذات النزعة القومية المغالية أو ذات النزعة القومية الكردية.
بدأ كليتشدار أوغلو بالمطالبة بإجراء محادثات مع الرئيس السوري بشار الأسد من أجل إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. ثم ما لبث أن أعلن أنه منحاز بقوة إلى المعسكر الغربي، وأنه فيما لو وقع انتخابه فسوف ينأى بتركيا عن روسيا.
كما أنه وعد بأن يحظى الأتراك بإمكانية السفر إلى أوروبا بدون تأشيرات خلال فترة لا تتجاوز الثلاثة أشهر من يوم انتخابه. ثم عندما فند الألمان وعوده بالإعفاء من تأشيرات الدخول إلى أوروبا، وعندما بات واضحاً أن السوريين لن يعودوا إلى ديارهم في المستقبل القريب، فقد كشف ذلك عن وجود ثغرات في التعهدات الكبرى التي قطعها كليتشدار أوغلو على نفسه للناس.
والأخطر من ذلك أن نغمة خطاب كليتشدار أوغلو مالت بشدة نحو اليمين قبل إجراء الجولة الثانية من الانتخابات فيما بدا محاولة لكسب أصوات خمسة بالمائة من الناخبين الذين كانوا من قبل قد دعموا مرشح اليمين المتشدد سنان أوغان، والذي جاء ثالثا في الجولة الأولى.
وأما شعاره الذي يقول عن السوريين إنهم "سوف يعودون" فلم يحظ بتعاطف كثير من الناس مع المرشح الرئاسي الطامح، بل انتهى به الأمر إلى أن لُقب بعبارة "كمال النازي".
في المقابل، بدت شعارات أردوغان أكثر إلهاماً (حتى وإن كانت غير قابلة للإنجاز)، مثل شعار "القرن التركي" ومثل "استمروا في السفر مع الرجل المناسب".
وبالطبع استفاد أردوغان من حقيقة أن الجمهور في العادة يخشى من الشخص غير المعروف، والذي يتعهد في حقبة من الأزمات بانتهاج سياسات لم تخضع للتجربة.
يخشى الناخبون في العادة من تنكب الصعاب وركوب المخاطر، وكيف بهم وقد أخفقت المعارضة في إقناعهم بأن أولويات رئاسة كليتشدار أوغلو ستكون معالجة المشاكل الحقيقية التي يعانون منها وليس العودة إلى النظام البرلماني.
واكتمل المشهد يوم الثامن والعشرين من أيار/ مايو عندما فاز أردوغان بفترة رئاسية أخرى، ولئن كان ذلك بأغلبية ضئيلة هي الأدنى على الإطلاق.
قد يقول البعض إن ذلك حدث من باب المصادفة أو عرضاً. إلا أن الفحص الدقيق للحملة يثبت أنه فاز أساساً بسبب ما يتمتع به من فهم جيد للناس وبسبب ما لديه من مهارة في التحدث إليهم، حيث تمكن فعلياً من توجيه الحديث بعيداً عن التحديات الحالية التي تواجه إدارته ونحو إبراز نجاحاته.
وفوق ذلك كله، يمكن القول إن ما أفضى إلى فوز الزعيم التركي هو وجود خصم ضعيف، مفتقد للكاريزما، بدون منصة، ولا رؤية لديه سوى النعيق "اهزموا أردوغان".
كم من الانتخابات الديمقراطية التي نظمت حول العالم وشهدت نفس الأخطاء ونفس الفرص التي تفضي إلى هزيمة مرشح أثناء وجوده في منصبه، ومن أشهر هذه الحالات وأكثرها خضوعاً للدراسة الانتخابات الأمريكية في عام 1992 والتي تنافس فيها بوش وكلينتون.
ولا ريب في أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تركيا، والتي أسفرت عن إعادة انتخاب مرشح في منصبه، ستكون من تلك التجارب التي سوف يتناولها الدارسون في المستقبل.