الهـ جوم الأوكراني المضاد: حصيلة أولية
المدينة نيوز :- بعد طول انتظار وتأخير، بدأ الهجوم الأوكراني المضاد الذي كان منتظراً منذ بداية الربيع الماضي وتأخر إلى الصيف. وعلى الرغم من ضراوة المعارك واستعدادات الجانبين منذ مدة طويلة، تسود أجواء عدم اليقين في قدرة كل من كييف وموسكو على إنجاز سريع في الهجوم الذي قد يشكّل نقطة تحوّل أساسية في مسارات الحرب ومدتها، وقد يرسم ملامح التسوية السياسية التي قد يُجبَر أحد الطرفين على القبول بها في حال تجرع مرارة الهزيمة.
وبعد أكثر من عشرة أيام على انطلاق الهجوم المضاد الأوكراني، بدا أن النتائج أدنى بكثير من التوقعات الغربية. وفي حين تتباهى روسيا بتدمير دبابات ومعدات غربية، وإفشالها الهجوم المضاد وقتل المئات يومياً، فإن المؤكد أنها انتقلت إلى الدفاع منذ عدة أشهر في معظم الجبهات باستثناء باخموت التي وظفت لها قدرات هائلة للسيطرة عليها لتسجيل انتصار "رمزي" بعد سلسلة هزائم وخيبات. ومن غير المستبعد أن الجيش الأوكراني الذي لم يوظف حسب معظم تقارير الاستخبارات الغربية أكثر من ثلاثة من أصل 12 لواء جديداً جهزت للمعركة، ما زال في مرحلة جسّ نبض الجبهات الروسية لإيجاد ثغرة مناسبة.
هجوم بلا إعلان
وتواصل القوات الأوكرانية هجومها المضاد ضد الجيش الروسي منذ 4 يونيو/ حزيران الحالي، ويتواصل القتال من خمسة اتجاهات أساسية. ويحاول الجيش الأوكراني التقدم من منطقة أريخوفا في شمال غرب مقاطعة زابوريجيا باتجاه توكماك للوصول إلى ميليتوبول. ومن جهة الشمال الشرقي لمقاطعة زايوريجيا تتقدم القوات الأوكرانية بشكل بطيء باتجاه ماريوبول وسيطرت على عدة قرى على محور فريمسكي فيستوب. وفي وجهته الثالثة يتقدم الجيش الأوكراني من فيليكا نوفوسيلكا باتجاه مارينكا القريبة من مدينة دونيتسك، وفي الجبهتين الرابعة والخامسة تسعى القوات الأوكرانية إلى التقدم في المنطقة الحدودية بين مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك من محموري كراسني ودوبوفكا فاسيلفكا.
وحسب بيانات كييف فقد تمكن الجيش الأوكراني من تحرير قرابة 100 كيلومتر مربع، والتقدم في عدد من القرى والبلدات في غربي زابوريجيا وفي اتجاه دونيتسك. وقال الجنرال الأوكراني أوليكسي هروموف في إفادة صحافية إنه تم تحرير سبعة تجمعات سكنية في دونيتسك شرق البلاد وفي زابوريجيا في الجنوب. وأكد أن جيش بلاده تقدّم بما يصل إلى ثلاثة كيلومترات بالقرب من قرية مالا توكماتشكا في قطاع زابوريجيا، وبما يصل إلى سبعة كيلومترات بالقرب من قرية في جنوب فيليكا نوفوسيلكا في قطاع دونيتسك.
وكشف سير المعارك في جنوب وشرق أوكرانيا أن الهجوم الأوكراني المضاد لن يكون سريعاً وخاطفاً كما سارت الأمور في جبهة خاركيف في سبتمبر/أيلول من العام الماضي حين انهارت الدفاعات الروسية في غضون أيام وتمكن الأوكرانيون من تحرير أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع في أقل من أسبوع.
وقررت وزارة الدفاع الروسية، حينها، الانسحاب من مناطق واسعة في مقاطعة خاركيف المحتلة منذ الأيام الأولى للحرب بحجة إعادة نشر القوات في دونيتسك وخيرسون. وبعد النجاح الأوكراني أجرت روسيا تغييرات في قيادة العمليات. وفي معارك خاركيف استطاع الجيش الأوكراني إيجاد ثغرات في الدفاعات الروسية واستغلها لتحقيق تقدم سريع، كما نجحت كييف في خداع الجانب الروسي عبر الحديث عن هجوم في خيرسون وشن هجوم صغير هناك، في حين كان التركيز على جبهة أخرى.
وبدا واضحاً أن أوكرانيا تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف، وهي إجبار الجيش الروسي على نقل القوات من خط الدفاع الثالث من أجل تعزيز قطاعات الجبهة التي تتعرض للقصف ما يسهّل لاحقاً على الجيش الأوكراني تحديد نقاط الضعف في دفاع الجيش الروسي.
وبعد تحديد نقاط الضعف يمكن إرسال مزيد من المدرعات والجنود إليها لتحقيق اختراق كبير. وأخيراً مواصلة الهجوم من على أكبر قدر من الجبهة المقدر طولها بأكثر من 1000 كيلومتر، وتحقيق التقدم قدر الإمكان إلى ما وراء خط الدفاع الأول، ما يسمح بمجموعة أوسع من الخيارات لمهاجمة الخط الدفاعي الرئيسي ويترك الجيش الروسي غير متأكد من اتجاه الهجوم الرئيسي الذي سيتم توجيه أكبر قدر من الجنود والعتاد لضمان نجاحه.
لكن القوات الأوكرانية منيت بخسائر أكبر من المتوقع في المرحلة الأولى المتواصلة منذ 12 يوماً، وفيها يخوض الجانبان معارك بالدبابات ويحاول كل منهما إبطال عمل مدفعية الطرف الآخر وضرب مراكز القيادات الميدانية والمراكز اللوجستية.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن الهجوم المضاد الذي تشنه القوات الأوكرانية ليس لديه "أي فرصة" للنجاح. وتابع في كلمة خلال منتدى سان بطرسبرغ أمس أن "القوات الأوكرانية ليس لديها أي فرصة هناك ولا في مناطق أخرى... الدبابات الغربية تتعرّض للتدمير في أوكرانيا، إنها تحترق". وهاجم نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قائلاً إنه "عار على الشعب اليهودي"، مبرراً مرة جديدة هجومه العسكري بسيطرة "النازيين الجدد" عليه، على حدّ قوله.
من جهتها، قالت وزارة الدفاع الروسية في أحدث بياناتها صباح أمس الجمعة إن قواتها تمكنت من صد 10 هجمات أوكرانية وتصفية 400 جندي أوكراني على محورين خلال يوم واحد. كما أعلنت عن صد هجمات في كوبيانسك، حيث قضت على ما يصل إلى 45 عسكريا أوكرانيا ودمرت 7 قطع من المعدات.
لكن وزارة الدفاع التي قالت إنّ القتال مستمر للسيطرة على قريتي ريفنوبل وأوروجايني على الجبهة الجنوبية في أوكرانيا، لمحت لأول مرة إلى تنازلها عن أراض. وقالت وزارة الدفاع "في منطقة فريميفكا المكشوفة يدور القتال الأكثر نشاطاً في منطقتي قريتي ريفنوبل وأوروجايني"، معلنةً أنها صدت خمس هجمات هناك خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية بمساعدة سلاح الجو والمدفعية.
وكون القتال يدور في هذه المناطق يعني أن الخطوط الروسية تراجعت بضعة كيلومترات في اتجاه الجنوب والشرق في محيط المنطقة المكشوفة في فريميفكا على حدود مناطق زابوريجيا ودونيتسك اللتين تحتلهما روسيا جزئياً. وتقع منطقة فريميفكا على بعد أكثر من عشرة كيلومترات شمال الخطوط الروسية المحصنة الرئيسية، التي تضم خصوصاً خنادق وفخاخا للدبابات. ومن شأن تحقيق أوكرانيا نجاحاً عسكرياً كبيراً في هذه المنطقة أن يقطع الجسر البري الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم التي ضمتها، ما سيشكل انتكاسة كبيرة لموسكو.
ويوم الأربعاء الماضي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقاء مع "المراسلين العسكريين" الروس إن نحو 30 في المائة من الآليات العسكرية التي سلمها الغرب أخيراً لأوكرانيا دمرها الجيش الروسي. وذكر أن أوكرانيا فقدت 160 دبابة و360 عربة مدرعة خلال الهجوم المضاد. وذكر بوتين أنه تم تدمير ما بين 25 و30 في المائة من الأسلحة التي حصلت عليها أوكرانيا من الغرب نتيجة لصد الهجوم المضاد، واستخدام الصواريخ والمسيّرات. وزاد بوتين متباهياً: "برادلي وليوبارد تحترقان بشكل ممتاز، كما توقعنا. ولا أعرف، ربما رأوها هناك، الذخيرة داخل الدبابات تتفجر، وكل شيء يتطاير في اتجاهات مختلفة".
كما قالت وزارة الدفاع الروسية أمس الجمعة إن القوات الروسية التي دمرت دبابات "ليوبارد" ألمانية الصنع وعربات مصفحة مقدمة من الولايات المتحدة وتستخدمها أوكرانيا ستتلقى مكافآت إضافية. وذكرت الوزارة أن هذا جزء من برنامج مكافآت أوسع نطاقاً حصل بموجبه أكثر من عشرة آلاف جندي روسي على مكافآت فردية منذ بداية الحرب.
تكتم وهجمات متصاعدة
كان لافتاً أن الإعلان عن بداية الهجوم المضاد لم يصدر عن كييف التي كانت حريصة على اتّباع استراتيجية الصمت والعمل بعيداً عن الضجة الإعلامية، وبدأ الحديث عن بداية الهجوم المضاد منذ منتصف الشهر الماضي من جهة باخموت لكن الطرفين لم يعلنا بدء الهجوم.
في المقابل خرج وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في 6 يونيو الحالي، ليقول في تصريحات أثناء تفقده مصنعاً للدبابات والمركبات القتالية إنه تم تدمير عدد من دبابات "ليوبارد" ومركبات "برادلي" الأميركية وقتل مئات الجنود الأوكرانيين الذين بدأوا في شن هجوم قبل ذلك بيومين. وبعد صمت طويل في ما يتعلق بمجريات الحرب على أوكرانيا علّق بوتين أكثر من مرة في الأيام الأخيرة، وذكر أن الجيش الأوكراني تكبّد خسائر باهظة تقدّر بثلاثة أضعاف الخسائر الروسية، ممتدحاً أداء الجيش الروسي، وخلص إلى أن أوكرانيا لم "تحقق أهدافها".
تمهيد خلف الخطوط
وتكشف وقائع الحرب في الشهر الماضي أن الطرفين ركزا على ضرب البنى التحتية واللوجستيات العسكرية والمدنية من أجل الحدّ من قدرة الطرف المقابل أو إجباره على إحداث تغييرات في استراتيجياته وتكتيكاته. وكثفت روسيا في مايو/ ايار الماضي ضرباتها بالصواريخ الباليستية ومسيّرات "شاهد" الإيرانية على المدن الأوكرانية ووصلت إلى 20 ضربة.
زادت أوكرانيا من هجماتها على البنى التحتية في شبه جزيرة القرم والمقاطعات الحدودية في غرب روسيا وجنوبها
في المقابل، زادت أوكرانيا من هجماتها على البنى التحتية في شبه جزيرة القرم والمقاطعات الحدودية في غرب روسيا وجنوبها، وحلّقت المسيّرات الأوكرانية فوق قباب الكرملين ذي الأهمية الرمزية السياسية والتاريخية، وكررت الهجوم على موسكو ومدن في عمق روسيا أكثر مرة لاحقاً. وفي سابقة، استطاعت قوات روسية مدعومة من أوكرانيا ومعارضة للكرملين من احتلال مناطق واسعة في مقاطعة نوفوغورد الحدودية قبل الانسحاب منها.
وزادت الضربات بالمدفعية والمسيّرات على هذه المقاطعة ومقاطعتي كورسك وبريانسك إلى الشمال منها. وربما أرادت كييف بعث رسالة بأنه لا يوجد أي خطوط حمراء لردها على الحرب الروسية وأنها تستطيع نقل المعارك إلى الداخل الروسي في محاولة لإثارة الروس ضد الحرب، وضرب معنويات الجنود الروس ورفع معنويات الأوكرانيين المنهكين يومياً بضربات الصواريخ الروسية.
ولكن الهدف الأهم ربما هو إجبار روسيا على سحب جزء من قواتها للدفاع عن هذه المناطق التي بدا أنها غير محمية وغير مجهزة على الرغم من أنها على حدود الحرب، إضافة إلى تشتيت الدفاعات الجوية الروسية ونقل جزء منها إلى المقاطعات الثلاث لتسهيل هجمات المسيّرات والصواريخ على المناطق المحتلة في خيرسون والقرم وزابوريجيا ودونيتسك ولوغانسك.
وفي أحدث دليل على استمرار أوكرانيا في استهداف البنى التحتية داخل روسيا، أعلن حاكم مقاطعة كورسك رومان ستاروفاتي صباح أمس الجمعة أن حريقاً كبيراً نشب في مخزن لمصنع ينتج الوسائد في المقاطعة. ولم يستبعد أن يكون السبب هجوماً بمسيّرات أوكرانية.
استبعاد خيرسون
تفتح خريطة المعارك منذ نحو أسبوعين على عدة سيناريوهات لوجهات الهجوم الأوكراني المضاد، ولكن لا يمكن البناء عليها لمعرفة جهة الهجوم الرئيس الذي قد يتأثر بسير المعارك ومستقبل الحرب عموماً. ويسود تكتم أوكراني على خطط الهجوم وحجمه ووجهته، وازداد الحذر بعد تسريب وثائق سرية من الاستخبارات الأميركية كشفت عن حجم الاستعدادات الأوكرانية والدعم الغربي.
ونشرت صحيفة "واشنطن بوست" في إبريل/نيسان الماضي إحدى الوثائق المؤرخة في بداية فبراير/شباط والمعبّرة عن الشكوك حول فرص أوكرانيا في النجاح في هجومها المضاد المقبل، وإشارتها إلى وجود مشاكل في تأمين قوات كافية والحفاظ عليها ما قد يؤدي إلى "مكاسب متواضعة على الأرض".
وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة بالمسؤولية عن تفجير سد كاخوفكا في السادس من الشهر الحالي، فإن النتيجة المباشرة للهجوم المضاد الأوكراني تكمن في استبعاد شن هجوم من جهة خيرسون. وعلى الرغم من أن سيناريو الهجوم من جهة خيرسون يعد أقرب الطرق للوصول إلى شبه جزيرة القرم، فإنه لم يكن الخيار الأفضل بالنسبة للأوكرانيين. فالعبور من الضفة اليمنى (الغربية) لنهر دنيبر إلى الضفة اليسرى حيث تتمركز القوات الروسية عملية صعبة ومعقدة حتى من دون فيضان النهر الذي يراوح عرضه في هذه المنطقة بين 800 و1500 متر.
كما تحظى روسيا بتفوق استراتيجي في مجال الطيران في هذه المنطقة نظراً لأنها دمرت معظم الدفاعات الجوية الأوكرانية منذ الأيام الأولى للحرب، إضافة إلى عدم نشر أنظمة باتريوت الأميركية المقتصرة حتى الآن على حماية العاصمة كييف. وأخيراً، فإن القوات الروسية سوف تستميت في الدفاع عن شبه جزيرة القرم التي شكل احتلالها في 2014 أحد أهم "إنجازات" بوتين في طريق إعادة إحياء أمجاد الإمبراطورية الروسية.
وتكشف خريطة المعارك عن عدة وجهات للهجوم الأوكراني المضاد، لكن الحكم على الوجهة الرئيسة للهجوم لم تتضح بعد. ومن الواضح أن الجانب الأوكراني نجح حتى الآن في التعمية على هدفه الأساسي، واختار البدء بتكتيكات للهجوم من جبهات عدة، ضمن نهج يهدف على الأرجح، لاكتشاف نقاط الضعف في الدفاعات الروسية، وعدم المغامرة بخسارة كبيرة عن طريق هجمات بمجموعات صغيرة في عدة مواقع قد تحقق تقدماً في مكان وتخفق في مكان آخر.
وكشفت الأنباء عن تكليف القوات الشيشانية مع مجموعات من الجنود في الخدمة الإلزامية بحماية الحدود في مقاطعة نوفوغورد يوم الأربعاء، عن نجاح الأوكرانيين في إجبار الروس على سحب جزء من القوات من المعركة للتركيز على حماية مناطق بعيدة خوفاً من ازدياد النقمة الشعبية.
ويواصل الأوكرانيون الهجوم من جهة غرب زابوريجيا نحو الجنوب، واستطاعوا التقدم عدة كيلومترات. وتعدّ جبهة زابوريجيا نحو الجنوب من أكثر السيناريوهات التي تم طرحها للهجوم المضاد، وتسعى أوكرانيا كهدف أساسي إلى الوصول إلى ميليتوبول وماريوبول على شاطئ بحر آزوف.
وفي حال نجاحها فإنها ستمنع التواصل بين القوات الروسية في دونيتسك ولوغانسك والبر الروسي وشبه جزيرة القرم والقوات الروسية الموجودة في خيرسون، ويستطيع الجيش الأوكراني في حال تقدم في هذه الجبهة الاقتراب من جسر كيرتش وشمال القرم، ويصبح الجسر وشبه الجزيرة في مرمى الصواريخ الحديثة التي زود الغرب أوكرانيا بها مثل "ستورم شادو" و"هيمارس" وغيرها.
ومن سلبيات هذا السيناريو "الطموح" أن القوات الروسية استطاعت بناء تحصينات وخطوط دفاع منيعة في الأشهر الماضية تصل إلى ستة خطوط حسب صور للأقمار الاصطناعية نُشرت في الشهر الماضي، تتضمن خطوط دفاع مع الخنادق ومواقع مدفعية وعوائق مضادة للدبابات وحقول ألغام، نظراً لأنه من السيناريوهات الأكثر ترجيحاً في حال قررت أوكرانيا مواصلة الهجوم على القرم.
كما أن عدد القوات الروسية المدافعة عن المنطقة ازداد بشكل لافت منذ حملة التعبئة الأخيرة ولجوء وزارة الدفاع إلى تجنيد المحكومين بالسجن على غرار ما فعلت قوات "فاغنر". وربما تكمن السلبية الكبرى لهذا السيناريو أن المسافة التي يجب أن تقطعها القوات الأوكرانية للوصول إلى ماريوبول تصل إلى 100 كيلومتر، ما يجعلها بحاجة إلى قوات كبيرة لحماية القوات المهاجمة من جهتي دونيتسك وخيرسون حتى لا تتعرض للحصار. وتزداد صعوبة المهمة وفق هذا السيناريو بسبب عدم وجود طيران داعم ونقص في الدفاعات الجوية، وحتى عدد الدبابات والمدرعات.
والأرجح أن أقصى ما يمكن أن تراهن عليه أوكرانيا إذا استمرت التوازنات الحالية هو الوصول إلى ميليتوبول حيث تكون طرق الإمداد الروسية من دونباس إلى القرم وخيرسون تحت مرمى نيران الصواريخ الأوكرانية.
وحسب وكالات الاستخبارات الغربية المتابعة للحرب، استطاعت أوكرانيا التقدم قليلاً في منطقة دونيتسك ومارينكا وحررت عدداً من القرى والبلدات، كما تمكنت أوكرانيا من التقدم في محيط باخموت وتحرير عدة كيلومترات. ولكن التقدّم سيكون أصعب مع الوقت لأن القوات الأوكرانية ستضطر إلى خوض معارك في مناطق حضرية تجبرها على اتّباع وسائل الحصار بما يعني تجميد جزء من القوات، أو الهجوم المباشر ما يعني زيادة الخسائر البشرية وفقدان المعدات. ومما يزيد من صعوبة التقدم في لوغانسك ودونيتسك الطبيعة الوعرة غير المواتية لتحرك المدرعات والدبابات.
ويمكن للقوات الأوكرانية أن تقسم الهجوم إلى مرحلتين، تكراراً لخدعة الخريف الماضي في خاركيف، وبمحاكاة للمناطق الجغرافية الجديدة، تستمر في الهجوم على منطقتي دونيتسك ولوغانسك وإجبار الروس على نقل جزء من القوات إلى باخموت ومحيطها ومارينكا، وشن هجوم مباغت أقوى من جهة زابوريجيا نحو برديانسك وميليتوبول وماريوبول. وفي حال عدم تحقيق جبهة زابوريجيا نتائج طيبة بالنسبة للأوكرانيين يمكنهم العودة والتركيز على باخموت وسوليدار وكريمينايا، حيث تقدمت روسيا في الشتاء والربيع الماضيين.
مخاطر الحرب الطويلة
من الطبيعي أنه لا يمكن التكهن بنتائج الهجوم المضاد حتى الآن في ظل استعدادات الجانبين، ولكن الجانب الأوكراني أحرص من نظيره الروسي على عدم إطالة أمد الهجوم الحالي من أجل عدم الوقوع في فخ خوض حرب طويلة على جبهات شبه راكدة. وربما تكمن صعوبة تحقيق نتائج سريعة في متطلبات الهجوم، وأهمها تجميع وحدات قوية في منطقة صغيرة، من وحدات مدرعة وقوة نارية كبيرة ومنظومات حماية جوية، واستخدام التفوق العددي والنوعي في تحقيق اختراق سريع. وحتى الآن يبدو أن أوكرانيا تركز على إيجاد نقاط الضعف في الدفاعات الروسية من أجل تحقيق اختراق من مكان واحد أو مكانين على الأكثر، وتأمين عبور الدبابات والمدرعات واستمرار خطوط الدعم اللوجيستي، وبالتأكيد الدفاع من الأجنحة وتعزيز الهجوم.
الجانب الأوكراني حريص على عدم إطالة أمد الهجوم الحالي من أجل عدم الوقوع في فخ خوض حرب طويلة
وكلما اندفعت القوات المهاجمة أكثر وتغلغلت خلف الخطوط الدفاعية للقوات الروسية تغيرت طبيعة ساحة المعركة بأكملها، وعندها تصبح الخطوط الدفاعية المتبقية للقوات الروسية غير مجدية، وسيصاب المدافعون بالارتباك والذعر ويضطرون للتراجع. والأرجح أن أوكرانيا تراهن على عقيدتها القتالية الجديدة عبر توظيف مجموعات صغيرة تتحرك من دون أوامر مركزية على عكس القوات الروسية حيث لا يستطيع القادة الميدانيون اشتقاق تكتيكات منفصلة عن القرار المركزي للأركان.
ومن المؤكد أن أوكرانيا تخشى من فشل الهجوم المضاد بما يعنيه من تراجع معنويات المقاتلين، وفقدان صورة الجيش الذي استطاع الصمود في وجه أحد أقوى الجيوش في العالم، والنجاح باستعادة خاركيف وخيرسون. ولكن الأهم ربما هو تراجع الدعم الغربي، فقد راهنت الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي وباقي الدول الغربية على أن الهجوم الأوكراني المضاد سيكون نقطة تحوّل في الحرب، وانتظرت بدء الهجوم الذي تأخر شهوراً، وتنتظر اليوم بفارغ الصبر تحقيق نتائج من شأنها إقناع الرئيس فلاديمير بوتين بضرورة إعادة النظر في حساباته والاعتراف بأنها كانت خاطئة، وأن عليه القبول بالتفاوض لإيجاد تسوية سياسية للصراع لا ترقى إلى الأهداف التي أرادها من وراء شن الحرب في فبراير/شباط 2022.
وبناء على ما سبق تخشى أوكرانيا من ارتفاع الأصوات المطالبة بتقديم تنازلات في موضوع التسوية السياسية للنزاع انطلاقاً من استحالة تحقيق أهدافها باستعادة مناطق المحتلة منذ بداية الغزو قبل نحو 16 شهراً وتلك المحتلة والخارجة عن سيطرتها منذ 2014 في دونباس وشبه جزيرة القرم.
والأرجح أن الهجوم الأوكراني سيطول أكثر مما كان متوقعاً، خصوصاً مع تراجع القيادة الأوكرانية عن النبرة المتفائلة بإمكانية تحقيق انتصارات سريعة وسهلة، ويحاول القادة السياسيون والعسكريون الأوكرانيون التقليل من التوقعات بشأن ما يمكن أن يحققه الهجوم المعاكس وهو ما عبّر عنه الرئيس فولوديمير زيلينسكي بشكل واضح في حواره مع قناة "إن بي سي" الأميركية حين أقر بوجود مقاومة روسية قوية، وأعاد مطالبته بتزويد بلاده بأنواع متطورة من الأسلحة ومن ضمنها طائرات "أف 16 " من أجل كسر هيمنة روسيا على الأجواء في منطقة العمليات العسكرية.
العربي الجديد