رشاوى لا مساعدات اميركية
إن تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون يوم الجمعة قبل الماضي بأن "الصحوة الديموقراطية " في الوطن العربي جاءت "لسوء الحظ ... في وقت تاريخي تواجه فيه حكومتنا تحديات اقتصادية خطيرة كثيرة جدا " بحيث "لا توجد أي طريقة " يمكن فيها للولايات المتحدة تمويل "مشروع مارشال للشرق الأوسط وشمال افريقيا " لا بد وأن يكون قد أصاب كل من بنوا برامجهم وحياتهم السياسية على استمرار تدفق المساعدات – الرشاوى الأميركية بخيبة أمل كبيرة، لكنه تصريح يجب أن يكون جرس إنذار بأن الوقت قد حان كي يعود العرب جميعهم، وأولهم الفلسطينيون، الى أحضان شعوبهم الدافئة ووحدتها وبرامجها الوطنية، فهي الضمان الوحيد للبقاء السياسي والخلاص الوطني.
في تعليق لها على حق النقض "الفيتو " المزدوج الذي استخدمته روسيا والصين في مجلس أمن الأمم المتحدة يوم الأربعاء الماضي ضد مشروع قرار أميركي – أوروبي ضد سورية قالت مندوبة الولايات المتحدة سوزان رايس: "اليوم يستطيع شعب سورية الشجاع ان يرى من يدعم تطلعاته الى الحرية وحقوق الانسان العالمية ومن لا يدعمها ".
ومن المؤكد ان السفيرة الأميركية تعلم أيضا لكنها وحكومتها تتجاهلان أن الشعب في سورية ومعه كل شعوب العالم يستطيعون اليوم وكل يوم منذ نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 بقيام دولة الاحتلال الاسرائيلي أن يروا بالملموس من يدعم حرية عرب فلسطين وتحررهم وحقهم في تقرير المصير وحقوقهم الوطنية والانسانية وأن يرى بأن دولة رايس الأميركية قد استخدمت حقها في الفيتو أكثر من خمسين مرة حتى الآن لحرمانهم من هذه الحقوق بينما تهدد علنا اليوم بتكرار استخدامه واستخدام كل مواردها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والمالية لحرمانهم حتى من الحق في التمثيل المتكافئ مع شعوب العالم الأخرى في وكالة أممية معنية بالثقافة والتراث الانساني الحضاري كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم "اليونسكو " بعد توصية مجلسها التنفيذي في الخامس من الشهر الجاري الى الدورة السادسة والثلاثين للمؤتمر العام لليونسكو في الفترة من 26 هذا الشهر الى العاشر من الشهر المقبل بقبول عضوية دولة فلسطين فيها.
إن رايس التي تتشدق بدفاع الولايات المتحدة عن "حقوق الانسان "، وبأنها "المانح الأكبر للمساعدات الاقتصادية والتنموية الثنائية للفلسطينيين " - - حسب الموقع الالكتروني للوكالة الاميركية للتنمية الدولية "يو اس ايد " - - لا تجد أي تناقض أو ازدواجية معايير أو حرج في أن يجمع الحزبان الرئيسيان، الجمهوري والديموقراطي، اللذان يتداولان الحكم في بلادها على أن "يجمدا " باسم "الكونغرس " الأميركي دفع حوالي مائتي مليون دولار أميركي من هذه "المساعدات " لتمويل مشاريع "إنسانية " في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في آب / أغسطس الماضي، من إجمالي "المعونات " السنوية للسنة المالية الجارية التي تزيد على (500) مليون دولار، أي قبل تقديم طلب منظمة التحرير الفلسطينية الى الأمم المتحدة للاعتراف بعضوية دولة فلسطين فيها، بهدف منعها من تقديمه، حتى يتم البت في طلب منظمة التحرير الذي قدم فعلا بعد ذلك، بينما يهدد مشروع ميزانية المعونة الخارجية ل "السلطة الفلسطينية " للسنة المالية 2012 بقطع كل "المساعدت " الأميركية ويشترط لصرفها "شهادة " من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أمام الكونغرس بأن المنظمة قد توقفت عن متابعة هذا الطلب.
والشروط السياسية المهينة التي تمليها واشنطن على صرف هذه "المساعدات " تحولها عمليا الى رشاوى مالية تسوغ قول الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في مقابلة مع "المصري اليوم " في السابع عشر من الشهر الماضي إن "الفلسطينيين يمكنهم العيش دون المعونة الأميركية " وان عدم الاعتراف بدولة فلسطين سيكون أسوأ من خسارة هذه المعونة. وتتضح هذه الشروط من الأسباب التي حدت بالكونغرس الى تجميد جزء من هذه المعونة للسنة الحالية والى التهديد بقطع كامل لها للسنة المقبلة. وقد لخص برادلي جويهنر المتحدث باسم لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب في الكونغرس هذ الأسباب بثلاثة هي: معارضة طلب اعتراف الأمم المتحدة بعضوية دولة فلسطين، ومعارضة المصالحة بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني الاداري المنقوص في رام الله وبين حركة المقاومة الاسلامية "حماس " في غزة، وعدم اعتراف منظمة التحرير ب "اسرائيل كدولة يهودية "، ليضيف مفسرا أن "التمويل الأميركي لا يمكن النظر فيه في فراغ " وان الأسباب الثلاثة "يجب ان تؤخذ جميعها بعين الاعتبار ".
وهذه الشروط – الأسباب لرفع "التجميد " الجزئي الذي وضع موضع التنفيذ ولعدم اللجوء الى القطع الكامل المهدد به في السنة المالية المقبلة تفسر استثناء "رزمة التمويل الأمني " لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني الاداري المنقوص في رام الله من "العقوبة الجماعية " التي فرضها الكونغرس على تمويل المشاريع "الانسانية ". ومن اجمالي مبلغ (513.4) مليون دولار طلب الرئيس باراك أوباما من الكونغرس اعتمادها "للفلسطينين " للسنة المالية الجديدة التي بدأت في الأول من الشهر الجاري طلب تخصيص (113) مليون دولار أميركي "لتقوية قوى الأمن الفلسطينية وتحسين سيادة القانون في الضفة الغربية ". ومن المؤكد أن رواتب وبدلات الفريق الأمني المكون من (150) عضوا الذي يرأسه المنسق الأمني الأميركي الفريق مايكل مولر، خليفة كيث دايتون سيء الصيت، سوف تستهلك حصة كبيرة من هذه المخصصات المقترحة لتعزيز التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال الاسرائيلي في الجانب الفلسطيني، وهي مخصصات كلفت الخزينة الأميركية (545) مليون دولار منذ بدء برنامج "التنسيق الأمني " عام 2007.
وفي أحدث شهادة له أمام لجنة الشرق الأوسط وجنوب آسيا المتفرعة عن لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي، قال مولر إن "هذه المرحلة الجديدة " في البرنامج الذي ينفذه "سوف تبتعد عن تزويد قوى الأمن الفلسطينية بالمعدات والبنى التحتية بصفة اساسية لتتجه نحو "دور مباشر بصورة متزايدة في تقديم النصح والمساعدة " وبرامج تطوير الجاهزية و "التدريب " الذي يجري باشراف "الإدارة الدولية لشؤون المخدرات وتطبيق القانون " بوزارة الخارجية الأميركية، مما لا يترك مجالا للشك في أن برامج المنسق الأمني الأميركي في الضفة الغربية المحتلة إنما تنفذ تحت عنوان "مكافحة الارهاب " و "الجريمة المنظمة " وتستهدف تحديدا المقاومة الفلسطينية للاحتلال، وهو ما أكدته رئيسة لجنة العمليات الخارجية المتفرعة عن لجنة الاعتمادات في مجلس النواب الأميركي عندما قالت مؤخرا إن التمويل الأميركي "الأمني " للسلطة سوف "يتأثر فقط إذا توحدت السلطة الفلسطينية مع حماس "، وربما لهذا السبب قام وزير دفاع القوة الأميركية الأعظم الحالي ليون بانيتا وسلفه روبرت غيتس بزيارتين لسلطة الحكم الذاتي الإداري المنقوص تحت الاحتلال المباشر تفصل بينهما سته شهور فقط ولا تحظى بمثلهما دول كاملة السيادة شريكة للولايات المتحدة في منظومتها الدفاعية الاستراتيجية الدولية.
واستثناء "التمويل الأمني " من قطع أو التهديد بقطع "المساعدات " الأميركية "للفلسطينيين " ليس هو الاستثناء الأميركي الوحيد اللافت للنظر مؤخرا. فقد كانت المعونة الأميركية السنوية لدولة الاحتلال الاسرائيلي هي الاستثناء الوحيد الآخر الذي لن يطاله خفض ميزانية المعونات الخارجية ضمن خطة اقتطاع (56) مليار دولار من الانفاق الأميركي بسبب الأزمة المالية الناجمة عن الحروب الأميركية العدوانية في الخارج وبخاصة في العراق وافغانستان.
وبينما يحلو للمانحين الاعلان المتكرر بأن حصة الفرد الفلسطيني من المعونات الدولية هي من أعلى الحصص في العالم، فإنهم يحجبون حقيقة أن دولة الاحتلال الاسرائيلي هي أكبر متلق سنوي في العالم للمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية المباشرة منذ عام 1976، وانها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حصلت على أكثر مما حصلت عليه أي دولة أخرى من هذه المساعدات، وأنه منذ عام 2007 كانت المساعدات العسكرية الأميركية لها تزيد بمعدل (140) مليون دولار سنويا، وأن "التمويل الأمني " للسلطة الفلسطينية انما هو جزء غير مباشر من هذه المساعدات.
لقد تحولت أموال "المانحين " الأميركان وغير الأميركيان التي تقدم "للفلسطينيين " باسم "دعم عملية السلام " الى رشاوى فاسدة وحاضنة للفساد تغطي على فضيحة كونها قد تحولت الى بديل لعملية السلام تمول استمرار الوضع الراهن لاستفحال السرطان الاستيطاني تحت الاحتلال الاسرائيلي، وهو الوضع الذي كرر الرئيس أوباما وأركان إدارته القول إنه "غير قابل للاستمرار " لكنهم يفعلون كل شيء من أجل استمراره.