دكتوراه فخرية
شاب في العشرينات من عمره وسط في طوله حنطي اللون صحته جيدة ويحمل كتابا في يده اليسرى .
كل الحكاية انني حضرت في اجازة قصيرة من عملي عام ،1999 وبعد بضعة ايام ذهبت الى دائرة الاراضي في منطقة الدوار الثامن لدفع ضريبة المسقفات كانت زوجتي ترافقني ولما وصلنا طلبت من زوجتي ان تبقى بالسيارة حتى اسدد الرسوم واعود لتكمل سماع اغنية ام كلثوم ، فزوجتي دقة قديمة مثلي فهي لا تستطعم الهمبورغر ولا هيفاء وهبي.
وفعلا مكثت بالسيارة وذهبت انا وسددت الرسوم وعدت وكان كل ذلك خلال ثلث ساعة تقريبا فالامور والحمد لله ميسرة ومنظمة فكل شيء اصبح يتم بواسطة الحاسوب .
رأيت وانا مقبل باتجاه السيارة شابا في العشرين من عمره وسط في طوله ، حنطي اللون ، صحته جيدة يحمل كتابا في يده اليسرى ويقف بقرب السيارة ولما وصلت استمر الشاب في حديثه وشرح حالته ولكن هذه المرة ادار وجهه نحوي واخذ يشرح لي قائلا والدي توفي وتركنا بدون معيل ، انا اكبر اخواني وامي مريضة ، واضاف انا مستعد ان اعمل اي عمل ، الشغل مش عيب ، مليح ، لكن اين هو الشغل ؟ انا بدون صنعة وبدون شهادة المهم الواحد ما يمد يده لغيره ، همي الوحيد توفير الدواء لوالدتي المريضة وقليل من الطعام لاخواني لسد رمقهم واضاف توفي والدي قبل عام واضطررت للتوقف عن الدراسة وانا الان ادرس منزلي توجيهي ادبي ، ساعدني بعض الزلم النشامى بشراء الكتب.
الشاب لطيف ومهذب وكلماته مختارة بدقة وعناية وادب ، فهو لا يشحد ولا يستجدي فهو ابن حمولة وهو يبدي الخجل لكن بجرأة عفيف النفس لكن يسأل .
نفسي انجح بالتوجيهي - قالها وتنهد - حتى استطيع ان اعمل اي عمل محترم لأقوم بواجبي بإعاشة أهلي.
كانت زوجتي قد أعطته قبل وصولي كل ما وجدته من نقد في جيب السيارة بضعة دنانير وطلبت منه أن ينتظر حتى أعود لأقوم بالواجب .
الشاب يحمل الكتاب ويحضنه بدفء فهو عزيز جدا وغالي عليه ، فهو مستقبله ومستقبل العائلة ، لم أصادف من قبل شخصا محتاجا لهذه الدرجة وعفيفا لهذه الدرجة ولا يتسول ، وهو فقط يشرح ظروفه بذكاء ويترك عواطفك تلعب دورها ففي مثل هذه الحالات تخجل ان تقدم لمن هو مثله ابن حموله بضعة دنانير وخاصة وانت تكشخ في سيارة مرسيدس جديدة نمرة سعودية مشتراه بالاقساط .
بحثت في جيوبي فلم اجد سوى ثلاثين دينارا وضعتها فورا في جيب قميصه واقسمت عليه ان يقبلها ، وحاول بتمنع سهل التردد في قبولها ولكن لم يفكر نهائيا باعادتها من سراديب جيبه، واعتذرت له انني دفعت كل ما معي رسوما للمسقفات ولم يبق غير هذا المبلغ الزهيد وتمنيت له النجاح والتوفيق .
لكن ما ان استلم المبلغ حتى بسرعة البرق وبذكاء وبدون ان اشعر انسحب وتبخر وتوارى عن الانظار، وفي المنزل اخذنا نلوم انفسنا لسوء حظنا لانه لم يكن معنا بالسيارة سوى بضعة دنانير وفي جيبي لم اجد سوى ثلاثين دينارا قدمتها له، وتمنين لو انني وجدت صندوق دائرة الاراضي مغلق ذلك اليوم، لكنت دفعت كامل المبلغ للشاب وكسبت الثواب، واولادي شاركوني الحزن والاسف وسوء الحظ.
في اليوم الثاني وفي نفس الموعد ذهبت الى نفس المكان دون ان يعلم احد، لا زوجتي ولا اولادي، اردت ان اقدم بيدي اليمنى دون ان تعرف يدي اليسرى، ذهبت واخذت معي مبلغا محترما، وقلت في نفسي لتكن زكاة عني وعن اهل بيتي اجدها ان شاء الله عند رب العالمين، ذهبت الى المكان عينه وانتظرت وبحثت عنه وحرثت المنطقة ذهابا وايابا في سيارتي ما بين الدوار السابع والثامن وعند دائرة الاراضي وما حولها وما فوقها وما تحتها، بحثا عنه لاقوم بواجب القرابة، ولكن للاسف دون جدوى فحظي سيء، رحل الشاب واختفى، وبعد ايام عدت الى السعودية، وقبل سفري اضطررت ان اصارح زوجتي وان لا اخفي عنها مشاعري، وقلت ذهبت وبحثت عنه ولم اجده، تأوهت وقالت والله اني كنت بدي احكي لك ان نذهب ونبحث عنه لنقوم بالواجب لكن خفت ان ترفض .
على كل حال سفرياتي واجازاتي كانت كثيرة فعادة كل بضعة شهور انزل اسبوعين الى الاردن لرؤية الاهل والاطمئنان عليهم.
مرت الايام سريعا بل كنت استعجلها ، ونزلت الى الاردن اجازة كالعادة وبحثت عنه ولم اجده. وقبل رجوعي للسعودية بيوم واحد ذهبت الى شارع الجاردنز باتجاه المدينة الرياضية ويا فرحتي وسعادتي الساعة الحادية عشر ظهرا يقف الشاب عند اشارة المرور خلف السيفوي بداية شارع الجاردنز، ولحسن حظي الاشارة حمراء والشاب المهذب يحمل كتاب اللغة العربية بيده، واقترب ابو التوجيهي من نافذة السيارة وقبل ان ينبس ببنت شفة اخرجت كل ما في جيبي، مائة وسبعين دينارا، ووضعتها كلها بيده، وما ان اخذها وملأت يده ونظر اليها بيده وليس بعينيه ولم يعدها ولم يتمعن بها بل ادخلها في سراديب جيبه فورا ورحل واختفى .
ولم ينتظر ولم يشرح ولم يشكر ولم يمدح، بل رحل واختفى، وقلت في نفسي هذا الشاب عصامي وعفيف، هو لا يستجدي ولا يشحد هو لا يتسول وطول عودتي الى المنزل وانا احسب وافنط، سيدفع منها لعلاج والدته المريضة كذا، وسيدفع ثمن الكتب ، اكيد سيعطي اخوانه مصروف ، وسيحصر لهم عشاء ، حمص وفلافل بل دجاج مشوي ، اكيد انهم لم يشاهدوا الدجاج منذ شهور .
لم تراني زوجتي فرحا ومبسوطا مثل هذا اليوم حتى قالت زوجتي \"ما شاء الله اليوم مبسوط كثير شو جايب راس كليب \" قلت في نفسي آه لو تعرف اني وجدته، اه لو تعرف شو اعطيته، ستعرف عندها ان راس كليب لا يساوي عندي دينارا واحدا من المائة وسبعين دينارا التي قدمتها له على طبق من ذهب ، مرت الايام والسنون وكل ما حضرت اجازة للاردن احيانا اراه واحيانا لا اراه وكل مرة اراه في منطقة مختلفة من مناطق عمان وادفع له المقسوم، والكتاب نفس الكتاب والشاب نفس الشاب، لكن الكتاب اهترى، والشاب كبر، فاول مرة رأيته عام 1999 واخر مرة في الاشهر الاوائل من عام 2007 .
وفيما بعد في صيف عام 2007 سمعت انه تم القبض عليه كاشهر واخطر متسول محتال بالاردن، وعلمت ان رصيده بالبنك ربما كان اكثر من رصيدي انا الذي امضيت اكثر من نصف عمري في صحاري السعودية.
وحزنت على نفسي وعلى امثالي من الزلم الطيبين السذج التي ترف قلوبهم لاي نسمة عاطفة .
وحزنت على عادل امام وعلى شهرته التي طاحت بالوحل حيث استطاع ابو التوجيهي القرابة التفوق عليه بالتمثيل باتقانه فن التسول بجدارة، فهو لا يشحد ولا يتسول ولكن مئات الدنانير يوميا تهرول لوحدها الي سراديب جيوبه الموصولة بنفق مباشر مع البنك الذي لا يسأل العميل ماذا تعمل ومن اين لك هذا .
تذكرت كيف كان الشاب (دكتور فخري) يحضن الكتاب بدفء فهو غال عليه وثمين فهو كتاب توجيهي ادبي، بل كتاب دكتوراة فخرية في فنون واساليب التسول والاحتيال الحديث، بل هو الكنز .
* مدير عام الشركة المتحدة للتوظيف