أنا وعمّان
المدينة نيوز - تعود صلتي الشخصية بل العضوية مع عمان منذ ولادتي بقرية ماحص عام 1941 ، ومع ان ماحص تتبع ادارياً متصرفية ـ محافظة البلقاء الا انها من الناحية الفعلية على ضوء الحاجات اليومية مثل تسويق نتاجها من الخضار والفواكه والثمار في حسبة عمان (التحتا) عند حسن ابو رصاع والحاج رؤوف الجقّة وحماد السعيد وغيرهم كانت ترتبط مع عمان اكثر واكثر ، اضف الى ذلك ان المرضى من اهالي ماحص كانوا يقصدون عمان ، وبخاصة عيادة الدكتور عيسى يواكيم والد زميلي يوسف وعيادة الدكتور قاسم ملحس في شارع الرضا الذي كان يعامل مراجعيه على انهم من ضحايا الملاريا.
كما ان عمان كانت نقطة جذب للعديد من ابناء اسرتنا الذين ارتحلوا وسكنوا المحطة بداية في مطلع ثلاثينات القرن الماضي في حي المعانية ثم تحولوا الى جبل الهاشمي الشمالي وكان عدد منهم قد عمل في «الكمب camp» اي معسكر الانجليز في ماركا ، وتعلموا المفردات الانجليزية وبعض التعابير للتعامل اليومي بتلك اللغة وكان مجتمع المحطة يمثل التعدد والتنوع فهو مزيج من المعانية والشوام والشركس والدعجة والمغاربة والدروز والسلطية والعبابيد ، ومن المسيحيين والفلسطينيين ، اذكر منهم بيت الغصين ، وتعزز الحضور الفلسطيني اكثر باسكان اللاجئين من عين كارم والطيرة وغيرهما في ملعب المحطة ، ارض عزيز الشركسي ، هذا المخيم كان وما زال يُعرف باسمها ، وكانت تجري فيه المباريات الرياضية من قبل برعاية سمو الامير ـ جلالة الملك عبدالله فيما بعد ، وكان لوالدي وأعمامي نشاط تجاري على مستوى البقالات والدكاكين بداية بحي المعانية وبحي الضباط ، ثم تحوّل الى محلات جميل الصالح حتر واخوانه ، الذين كنت أشاهد عندهم في محلهم الكبير كبار المسؤولين من الوزراء ورجال الدولة والامن العام ، ناهيك عن متعهدي توريد المواد التموينية للجيش وللسجن ، والوقود الى سكة الحديد.
ونذكر هنا انه على حدود المحطة الشمالية نشأ المعسكر ومسجد الفتح ، وبجانبه السجن ، وبعد ذلك بساتين عين غزال ، التي كانت تمد اهالي المحطة بقسط وافر من حاجاتهم اليومية من الخضار ، ورافق ذلك ان والدي وعمي ابتنيا بيتاً عام م1949 بجبل الهاشمي في جوار القناوية ودار الفضلي ، وفي جوار عائلات من الصويصات من الفحيص ، واتسع هذا الحي بعدما انشئت مدرسة الزبيدية للبنات هناك ، وقامت محلات تجارية مثل محلات عبده نقاوة وغيره ، ولم تكن الطريق المعروفة الان بطريق نايفة معبدة ، حيث كانت تخيم هناك قطعات عسكرية واخرى من الامن المركزي ، وعندما كنت تلميذاً بالثانوية اسكن في الجبل الهاشمي ، كنت اسلكها لاستذكار دروسي مشياً على الاقدام ، مع انني لم اكن قد تعرفت به على مدرسة المشّائين من تلاميذ ارسطو ، وكانت عائلتنا في ماحص في الاسبوع الثالث من شهر ايار من كل عام منذ سنة م1946 تجيء الى المحطة لحضور يوم الجيش ، رمز احتفالات المملكة بعيد الاستقلال الذي كان يجري في ميادين المعسكر والمطار العسكري هناك ، وكان الناس يأتون الى هذا الموسم من مختلف مناطق المملكة وبخاصة من مناطق الجوار القريب ، وتوقف حضور اهلي بعد ان اعتمد ميدان خو ، شرقي الزرقاء ، لاقامة الاحتفالات ، وتوثقت صلتنا اكثر وأكثر بالمحطة عندما التحقت سنة م1947 بالمدرسة العلوية بحي الضباط ، وكان مدير المدرسة آنذاك المرحوم احمد السعد من بلدة الطرة من لواء الرمثا اليوم ، وكانت حطته الزرقاء وعقاله المرعز لا يفارقانه ، وكانت عادة لبس الشماغ الازرق من تقاليد ابناء القرى والمدن في الضفة الشرقية ، ولم يصبح رمزاً سياسياً الا بعد قيام منظمة التحرير عام 1964م. وكان اعتماد الشماغ الاحمر من صناعة مانشستر من تقاليد الجيش العربي الاردني ، وكان من اساتذتي في المدرسة العلوية المرحوم وليد المورلي ، الذي التقيت معه فيما بعد في اواخر ثمانينات القرن الماضي في الجامعة الاردنية ، وكان يعمل في دائرة العلاقات العامة بالجامعة ، وعندما كان يأتي لاصطحابي ، كرئيس للجامعة بالوكالة ، لافتتاح مؤتمر او استقبال ضيوف ، كنت ارفض ان اسير امامه ، بل أقدّمه على نفسي وأقول للناس: وليد استاذي لذا لا يجوز لي ان أتقدم عليه ، رحم الله الاستاذ وليد.
ولم تطل اقامتي بالمدرسة العلوية ، واذكر من زملائي فيها طلاباً من عائلات العبدلات والعوايشة وال ابو جسار ومن هذه العائلة الكريمة القابلة الحاجة مطيعة رحمها الله ، التي ولّدتني ، وطلاب من حارة المعانية والدعجة والشوام وغيرهم. واقول هنا ان المحطة كانت تعتبر الحي الاميز في عمان ، وما عليكم الا قراءة كتاب الدكتور موفق خزنة كاتبي عنها. وعدت قبل نهاية العام الى مدرسة ماحص الابتدائية ، ومنها الى مدرسة صويلح الاعدادية ، وبعد ذلك ، وفي عام 1957 ـ م1958 التحقت بكلية الحسين لمدة عامين ، لاستكمال المرحلة الثانوية ، فعدت للسكن في المحطة من جديد ، وكنا نعتمد الحافلات الكبيرة للذهاب والاياب الى شارع الشابسوغ في وسط عمان ، وأتذكر من اصحاب الحافلات الحاج عبدالله ابو قورة ، ورجب خشمان ، وجميل الصالح حتر ، وزهدي عصفور ، وسليمان البخيت (ابو عارف) ، وجميل مسمار ، وغيرهم ، وكانت الاجرة زهيدة ويُعطى الطلبة حسماً مجزياً ، واحياناً لا تؤخذ منا اجرة اذا كان «الكنترول» او المفتش العام ، يعرفنا ، وقصّت السواعد القوية من اهالي الخليل سفح الجبل الحامل لسكة الحديد والممتد من مفرق النشاء الى مدخل المحطة ، كما يقص الخياط الماهر ثوب القماش ، لاقامة محلات صناعية وتجارية جديدة على جانبي الطريق الواصل الى المحطة ، من اهمها مصنع السكاكر للكسيح ، الذي درّسني ابنه البكر بشير في كلية الحسين ، وزاملته فيما بعد بالجامعة الامريكية ، ومصنع السكب لموسى عبدالنبي ، زميل عبدالحميد شومان في عالم الهجرة بامريكا ، وكان والدي يراجع كثيراً مصنع السكب ، لانه كان يمتلك ، مع آخرين ، مطحنة بماحص ولهذا كان يتردد على ذاك المصنع.
وأهم الاحداث اليومية بالنسبة لنا بالمحطة كانت عندما نسمع زعيق صفارات القطار القادم من معان او من الشام ، ونراقب عن بُعد تزاحم العتالة واصحاب الحافلات الصغيرة عند وقوف القطار لاختطاف الركاب وعفشهم ، والامر الآخر الذي يهمنا كان هبوط الطائرات في مطار عمان المدني الصغير ، وكان السفر بالطائرات من الميزات التي تتمتع بها القلة المحظوظة. وأذكر انني سافرت لاول مرة مضطراً بالطائرة الى بيروت ، بعد اغلاق الحدود السورية - الاردنية ، وذلك عند انفكاك عُرى الوحدة بين سورية ومصر في ايلول 1961م. وكنا نرى مواكب الضيوف في قدومهم وترحالهم من المطار ، وفي الطريق الى المطار في المحطة تم اغتيال صاحب الميثاق اللبناني ، الزعيم رياض الصلح ، في 16 تموز م1951 ، على يد افراد مكلفين بذلك من الحزب القومي الاجتماعي السوري ، رداً على اعدام مؤسس الحزب انطوان سعادة ، صاحب العرزال ، كما بين ذلك سامي الخوري في مذكراته ، وعلى ضوء ما نشرته عائلة الصلح عن اغتيال كبيرها. وكان انتشار الحزب القومي السوري محدوداً في الاردن ، وجاءت مجموعة من اعضائه لاجئة الى عمان بعد فشل انقلاب الحزب عام م1963 على الرئيس اللبناني الاسبق فؤاد شهاب ، منهم علي غندور الذي شاركنا مع عدد من الزملاء في تأسيس جمعية الشؤون الدولية بمبادرة من الشريف عبدالحميد شرف عام 1977م.
وكنّا نصل من شارع الشابسوغ الى كلية الحسين سيراً على الاقدام ، ومثل ذلك في طريق العودة ، وكنّا نفعل مثل ذلك عندما كنا نُدعى عند الاصدقاء في مناطق عمان ، وكنت أشاهد كبار موظفي الدولة يحضرون في الصباح الى مكاتبهم سيراً على الاقدام ، او بالاعتماد على سيارات الاجرة ، حيث يشارك الواحد منهم غيره من الركاب في تلك السيارة ، وما زلت اذكر قاضي عمان الشرعي ، ورئيس المحاكم الشرعية فيما بعد ، امام الحضرة الهاشمية ، الشيخ محمد فال الشنقيطي ، يحضر من بيته في جبل الجوفة الى المحكمة الشرعية عند طلعة جبل الحسين ، ويعود بعد الظهر سيرا على قدميه. وكنت كثيرا ما ازور بيوت زملائنا في المدرسة من علية القوم ، او من العاديين من خلق الله امثالنا ، فلا اجد فروقا كبيرة في الاثاث والرياش بينهما ، وكم كنا - من باب الفضول - نطل على بيت المرحوم هزاع المجالي تحت ساحة كلية الحسين ، فلا نجده مختلفا عن بيوت بقية المواطنين ، اقول ذلك لا لاقارن بما نراه اليوم ، بل لأتأكد ان ذاكرتي ما زالت تحتفظ بهذه الصورة الجميلة والمشرفة لاهل عمان وقاطنيها في مجتمع كان يقوم على الاخلاق والثقة والنزاهة والانجاز والتنافس الشريف. وكنا نتلقى العلم على أيدي اساتذة أفاضل على رأسهم نجاتي البخاري الذي كان قد درس بالهند ، لذا كان يحاضرنا عن شاعر الهند الكبير طاغور وعن مهاتما غاندي ، خاصة عن جنازته وهو باني الهند الحديثة مع جواهر لال نهرو الذي سمعته مرة يحاضر بالجامعة الاميركية ببيروت ، التي منحته مفتاحها ، وكان معه ابنته انديرا غاندي ، رئيسة الوزراء فيما بعد ، التي قابلتها وتحدثت اليها في حفل اقامة السفير الاردني في نيودلهي في نيسان م1979 ، في حديقة بيته المجاور لبيتها ، وجاءت مسلمة على سمو الامير الحسن بن طلال عندما كان يزور الهند في طريقه الى اندونيسيا وماليزيا ، ونحن بمعيته.
واذكر من اساتذة كلية الحسين المرحوم لطفي عثمان ، استاذ اللغة العربية فيها ، وهو شامي الاصل ، وابنه عدنان كان يزور والدي رحمه الله ليستقي منه معلومات عن المدارس والتعليم في مطلع القرن العشرين ، ذكرها في رسالته للدكتوراة ، ومحمد عبده هاشم ، استاذ مادة الدين ، وعبد خلف داؤوية ، استاذ الرياضيات وسابا الزنانيري ، استاذ اللغة الانجليزية ، وكذلك منير النجار ، الرجل الذي كنا نعشق اسلوبه في تدريس الانجليزية ولا أنسى المرحوم عمر طبيلة ، الرجل الموهوب بتدريس مادة الفيزياء ، واستاذ الرياضيات سليم الطاهر وخليل الامام استاذ التاريخ ، وغيرهم من الاساتذة الاجلاء رحم الله من توفي منهم ، واطال في اعمار الاحياء منهم.
وكانت الحزبية ، مثل: حركة الاخوان المسلمين ، وحزب البعث العربي الاشتراكي ، وحركة القوميين العرب ، والحزب الشيوعي ، معروفة لدى طلبة الكلية ، ولكن اثرها كان محدودا ، نظرا للرقابة المفروضة على الطلاب في اطار الاحكام العرفية ، وكنا نستمع الى اذاعة صوت العرب من القاهرة ولكن بحذر شديد ، حيث حلت الاحزاب ونقل كثير من أعضائها العاملين الي سجن المحطة او الى الجفر او الى باير ، ومن ذاك اليوم ثبت فشل التجربة الحزبي في الاردن ، لانطلاقها من قاعدة الخروج على الشرعية ومخالفة الدستور ، ولم يعد للناس القابلية للانضمام الى الاحزاب التي لم تستهوني اي منها ، لذلك لم اتصل بأي تنظيم ما كان ، ومن هنا كنا موضع اتهام زملائنا الطلاب الحزبيين في الداخل والخارج بأننا «رجعيون» و«بدو» ومن «زلم النظام». ودارت الايام فاذا المناصب الكبرى تستند لاولئك الحزبيين ، ولم كان يتهمنا بأننا لم نتغير ، اننا لم نبدل في قناعاتنا ومنطلقاتنا الوطنية والقومية ، وما زلنا على هذا الخط نسير ، وهو الانتماء للوطن والامة والاخلاص لهما.
اثناء وجودي في عمان ، لم اشارك في المهرجانات والمظاهرات ، بل انصرفت بشكل كلي للدراسة ، وكنت اذهب مع عمي محمد (ابو المنذر) ايام الجمع ، عندما اكون في المحطة ، لأداء صلاة الجمعة في جامع الكلية العلمية الاسلامية بجبل عمان ، هذه الكلية أنشأتها مجموعة من اهل الخير من شوام عمان عام 1366هـ ـ م1947 ، وكان الدافع لدى عمي ولدي الاستماع لخطبة الجمعة التي كان يلقيها استاذي في كلية الحسين المرحوم محمد عبده هاشم ، وكانت خطبه تعتبر اصلاحية وجريئة في حينها ، أما اذا ما قورنت بما نسمع اليوم فكانت عادية ومهذبة ، وكلما مررت بمسجد الكلية اتذكر انني قدمت امتحانات الشهادة الثانوية فيها حسب التقاليد المتبعة لدى وزارة التربية والتعليم ، في ان يقدم الطلاب الامتحانات للدراسة الثانوية في مدارس غير مدارسهم ، ولم تكن عادة الاعتداء على الاساتذة معروفة ولا مقبولة. وكنت في نيسان م1974 قد اجتمعت برفقة زميلي معاوية ابراهيم مع المرحوم بشير الصباغ لوضع تعليمات الجمعية التاريخية الاردنية ، وسمي بشير رئيسا مؤسسا لها ، وهكذا ورد اسمه في قائمة المشاركين في المؤتمر الدولي الاول لتاريخ بلاد الشام عام 1974 ، وكان مبنى وزارة التربية والتعليم يقوم بجانبها ، والوزير الشيخ محمد الامين الشنقيطي يداوم عصرا ومغربا وعشاء فيها ، لمتابعة اعمال الوزارة التي كانت تقوم على المركزية الادارية الشديدة في ادارة امور التربية والتعليم في الضفتين.
وعندما تم اختيار 54 طالبا عام 1959 من اوائل الضفتين ، اوفدنا للدراسة بالجامعة الاميركية ببيروت ، على ان نعود ونخدم مع الوزارة بموجب كفالات وضمانات امنية ، وكان قد سافر معي عدد من زملائي في كلية الحسين ، مثل المرحوم عدنان علاوي وراضي الشنقيطي وموفق حدادين وكان معنا عدد من ابناء الحدادين في الكلية امتازوا بالجدية. وكان سفرنا جماعيا من ساحة مدرسة الملكة زين الشرف بالدوار الاول من جبل عمان بواسطة سيارات صغيرة استأجرتها الوزارة من مكاتب شركة بتراء وباشراف نوري شفيق الوزير فيما بعد. وكان من ابرز العاملين بالوزارة آنذاك المرحوم الشيخ ابراهيم القطان ، الذي عرف بتنوره واستنارته الفكرية وكان قريبا من المرحوم حمد الفرحان القومي العربي المعروف ، لذا كان الشيخ الشنقيطي يخاطبه من باب الطرافة وبقية زملائه في تحركهم السياسي ، بحزب الارمن. وكان هناك المرحوم ذوقان الهنداوي ، والمرحوم خليل السالم والمرحوم حسني فريز وغيرهم من اصحاب الأيادي البيضاء والفضل على التعليم في الاردن الذي ارتكز على خطط تربوية مدروسة ومناهج دقيقة محكمة. ولم تكن مديرية المناهج قد سيست بعد ، قبل ان توكل الاعضاء في حركة الاخوان المسلمين ، من ابرزهم اسحق الفرحان وعبداللطيف عربيات وغيرهما.
ولا بد ان اشير هنا الى حادث مهم في حياتنا الطالبية بكلية الحسين ، اذ كانت المدرسة الثانوية الوحيدة التي تستقبل الطلاب من محافظة عمان التي كانت تشمل مادبا وقراها وصويلح والقري التابعة لها ، ومدارس عمان ومحيطها بطبيعة الحال ، وكانت المكان والملتقى لكل طلاب الصفين النهائيين في مرحلة التوجيهي من هذه المناطق ، فكانت بذلك البوتقة الوطنية لكل طلابها على تعدد مشاربهم واصولهم ، وكانت الوزارة تختار لها صفوة المعلمين. ومن ابرز الاحداث في حياة الكلية كانت عندما اندفع طلابها بشكل عفوي دون اذن الادارة وانطلقوا ركضا على امتداد طريق وادي الحدادة الضيق والمنحدر باتجاه قصر رغدان وذلك عندما تناهى الى اسماعهم في ضحى العاشر من تشرين الاول 1958 ان طائرات ميج سورية هاجمت طائرة جلالة الملك الحسين وهو يمر في الاجواء السورية في طريقه الى اوروبا ، واستطاع ان يتحاشاها ويعود الى مطار ماركا العسكري ، ويعود سالما الى قصر رغدان. وعندما شاع الخبر تدفقت الناس لتتأكد من سلامة الملك ، فأمضى سحابة اليوم وهو يحيي الناس ، ولم يصغ لطلب الوزراء والمرافقين له بالدخول الى داخل القصر ، بل اصر على تحية الجماهير وكان طلاب كلية الحسين من اوائل الذين وصلوا وهتفوا للملك وحيوه الى ان غابت الشمس. وهذا يذكرني بزخم الجماهير وفرحتها عندما عرب الملك الراحل قيادة الجيش واقال جون باجوت كلوب في الاول من اذار من عام 1956 فجئنا تلاميذ المدرسة من صويلح لنشارك في الفرحة ، ورأينا الملك واقفا امام محلات الحايك في شارع الملك فيصل محاطا بالوزراء والجماهير تمر جذلى من امامه ، تقدم له التحية ، وهو يلوح لها بمثل ذلك من المحبة والاحترام.
ان دراستي بالجامعة الاميركية ببيروت لم تقطع صلتي بعمان ، بل بقيت مستمرة ، حتى ان النشاطات التي لم أتمكن من حضورها في لبنان احضرها في عمان ، مثل حفلات السيدة فيروز ، حضرت مع والدي واحدة منها في المدرج الروماني في صيف 1963 ، ليلة غنت «اردن ارض العزم» وهكذا عادت الحياة والحيوية الى المدرج وسمعنا كثيرا من النقد قبل ذلك في عهد حكومة المرحوم هزاع المجالي ، عندما تم التزلج على الثلج الاصطناعي في صحن المدرج ، وبالرغم من ذلك حافظت الانشطة العامة على وجودها ونوعيتها الى يومنا هذا. وبعد عودتي من بيروت عام 1966 كنت احضر النشاطات الفكرية التي تقيمها امانة العاصمة ، بمبادرة من المرحوم عبد الحميد شرف ، الذي كان ينظم محاضرات عامة دعا اليها بالدرجة الاولى اساتذة من الجامعة الامريكية ببيروت ، وبعد مباشرتي العمل بقسم التاريخ بالجامعة الاردنية في ايار م1972 ، كنت افيد من مكتبة الامانة واليها احيل طلابي ، واصبحت في عهد الامين علي السحيمات 1989« - »1991 عضوا في مجلس امنائها ، وكان حريصا على انشاء فروع للمكتبة العامة في الضواحي ، واذكر انني حضرت معه افتتاح فرع صويلح ، وقبل ذلك خدمت عضوا في لجنة تسمية الشوارع في عمان الكبرى في عهد الامين مع ابو نوار 1967« - »1979 وكانت اللجنة برئاسة كامل ابو جابر ، ومن اعضائها المرحوم محمود العابدي وروكس بن زائد العزيزي ومن جانب الامانة المهندس خالد البوريني والمهندس ماجد العبوة ، واذكر اننا كنا ندير الموضوع كما لو كنا في حلقة بحث علمية في اختيار الاسماء وتبيان المسببات الموجبة واستعراض سيرة صاحب الاسم ، واستطعنا ان نطلق اسماء شهداء القوات المسلحة على عدد كبير من الشوارع ، ومثل ذلك اسماء القرى الاردنية ، الا ان اسماء اخرى كثيرة كانت تزج وتقحم علينا تحت دواعي الضغوط الاجتماعية ، وهذا يفسر لنا ما نقرأه اليوم من اسماء على اللوحات الارشادية ، واصبحت الحاجة ملحة لاعادة تنقيح الاسماء وغربلتها من جديد.
وتم اختياري في عهد عبدالرؤوف الروابدة عندما كان امينا لعمان الكبرى 1987« - »1989 عضوا في متحف الحياة السياسية اذكر من الاعضاء الزملاء المهندس وضاح العابدي والمهندسة دالية الخوري ، واوكل امر امانة سر المتحف للمرحوم سليمان الموسى ، واختارني الروابدة مع عدد من جال الفكر والسياسة والفن لعضوية المجلس الثقافي لمدينة عمان. واذكر منهم المرحوم حمد الفرحان ، وطاهر حكمت ، والسيدة ليلى شرف ، ، والاميرة وجدان الهاشمي ، وكان الاستاذ طارق مصاروة امين سر هذا المجلس ، كما شاركت مع غيري وباسهام كبير من احد مهندسي الجامعة الاردنية رؤوف خوري المهندس الملهم في مناقشة العناصر المكونة لتصميم وعلم مدينة عمان المعروف لدينا جميعا بأقواسه وباشاراته لقصور بني امية ، والذي لسوء الحظ قد الغي مؤخرا واستعيض عنه بعلم جديد على امل ان يكون معبرا عن عمان البشر والحجر والعمارة والعمران كما يقول ابن خلدون ، ومثل ذلك جاءت مشاركتي مع عدد من الزملاء ، مثل معاوية ابراهيم وغازي بيشة وزيدان كفافي وطالب الرفاعي وغيرهم في مشروع المتحف الوطني الذي بادرت اليه وطرحت فكرته وتابعته لعدة سنوات السيدة الشريفة هند ناصر ، ووضعنا الافكار والدراسات وتمت الاستعانة بخبير من اليونسكو ثم اصبح هذا المشروع من مهام امانة عمان الكبرى ، وكان من المفروض ان يقام في هذه المنطقة المطلة على المدرج الروماني بقصد اعادة الحياة الى قلب مدينة عمان ، ولكن اختير له المكان المجاور لامانة عمان الكبرى في راس العين او سوق الحلال ، كما كان يعرف سابقا.
وطرحت افكار في 1977 - 1978 لكتابة تاريخ مدينة عمان بمناسبة مرور مائة عام على استقرار الشركة فيها ، وكانت وجهة نظري ان الاستقرار السكاني بعمان اقدم من وصول الشركس بدءا من عرائس عين غزال وحوريتها قبل ثمانية الاف عام الى يومنا هذا ، ويمكن ان اشير هنا الى دراسات اليستر نورثج:
Alastair Northedg: Studies on Roman and Islamic \"Amman O.U.P.\" 2991
واشير هنا ايضا الى دراسات Martin Almaro وابنه Antonio عن القلعة ، وعن المسجد وقصر الحكم الاموي الذي حاول الشعار القديم ان يستوعبهما ، فالحضور العربي كان وسيبقى من مميزات عمان.
كنا في منزل احد الاصدقاء على العشاء بمعية سمو الامير الحسن بن طلال ، وبحضور رئيس الوزراء انذاك ، فطلب مني كتابة تاريخ عمان ، فتدخل احد الحضور ممازحا ومتسائلا عن علاقتي بعمان ، وانا لست من سكانها؟ فكان جوابي عمان لمن يحبها ويدافع عنها ، وليس لمن يفيد من غلاء اسعار الاراضي فيها ، وبالرغم من ذلك ، لم انس واجبي نحو عمان ، من هنا وجهت طلابي للماجستير والدكتوراة لكتابة تواريخ المدن وجوارها في الاردن وفلسطين ، وقام تلميذي وزميلي نوفان الحمود باعداد رسالة للدكتوراه عن عمان وجوارها ، وكانت رسالة رائدة في الموضوع وتبعتها دراسات كثيرة عن عمان ، من اهمها ما اعدته فيما بعد هند ابو الشعر وجورج طريف ونوفان الحمود عن تاريخ المدينة ، اضف الى ذلك دراسة جودت ناشخو عن تاريخ الشركس الذي اشرفت على عمله وتابع الاشراف عليه عبدالكريم غرايبة ، بعد انتقالي لتولي رئاسة جامعة مؤتة سنة 1991 - م1993 وكنت قد تنبهت لأهمية سجلات المحكمة الشرعية لقرية عمان فقمت مع زملائي بتصويرها لحساب مكتبه مركز الوثائق والمخطوطات ضمن مشروع تصوير سجلات المحاكم الشرعية والكنيسة والاوقاف ، في مختلف مدن وقصبات بلاد الشام ، وبذلك اقمنا تاريخنا على اعرق المصادر وانقاها ، ومن هنا جاءت الموافقة لأحد طلاب الدراسات العليا بجامعة آل البيت بتحقيق السجل الاول من هذه السجلات ودراسته ، وتم ذلك تحت اشراف هند ابو الشعر وتم نشره.
واستهوتني وما زالت بيوت عمان على مختلف مستويات اصحابها الاجتماعية ، ومن هذا المنطلق ، عندما عثرت في احدى زياراتي على رفوف مكتبة قسم العمارة بكلية الهندسة بالجامعة الاردنية على مجموعة من المخططات لبيوت عمان الاولى - اعدها طلاب قسم العمارة بالجامعة الاردنية قمت بجمعها بعد التنسيق مع الاساتذة المشرفين ، ونشرت عندما كنت عميدا للبحث العلمي سنة م1987 ، كتاب «بيوت عمان الاولى» من اعداد طالب الرفاعي وربا كنعان ، وقدمت للعمل بدراسة تعربفبة عن تاريخ مدينة عمان - مشيرا الى وصف الجغرافيين العرب لعمان ، واوردت قبسات من سجلات المحاكم الشرعية ، وايضا ما جاء عنها في السالنامة لعام م1881 والسالنامة هي الكتاب السنوي الذي كانت تصدره الدولة العثمانية سنويا ، كما نشرت في العام التالي دراسة مماثلة عن عراق الامير - البردون - وهي من قرى عمان ، ومن حسن الحظ ان المهندس محمد رفيع كشف الغطاء عن الاف الاوراق المتعلقة ببيوت عمان حتى مطلع الخمسينات ، ونشرها في عدد من المجلات ، وعندما قدمت لأحد كتبه ذكرت ان عمان قد قررت الاسترخاء على ضفتي سيلها استفاقت من سباتها عندما فكر السلطان عبدالحميد الثاني 1876« - 1909م» بانشاء الولاية الحميدية تكون عمان مقرها ومركزها ، لذا فراحت لارتباطها مع استانبول بالخط الحديدي الحجازي سنة م1908 وصولا الى المدينة المنورة ، ونهضت من غفوتها التاريخية لتتحول من قرية الى عاصمة للامارة ـ المملكة الاردنية الهاشمية عام م1928 ، بعد ان وقع الخيار عليها بعد المفاضلة بينها وبين السلط ، وكبرت عمان بأهلها وبقيادتها ومن هنا نفهم المثل الدارج «حد علمك وعمان قرية».
وتستمر قصتي مع عمان بعد ان سكنت في احدى ضواحيها ، وما زلت اوجه الطلاب لدراسة تاريخها وعمرانها وعنيت بتوثيق وجوه الحياة فيها ، وعرضت الامر على امين عمان الكبرى فأعجبته الفكرة وشكل لجنة لهذا الموضوع عقدت عددا من الاجتماعات ووضعت تقريرا قدمنا له فوافق مبدئيا على مباشرة العمل ، ونأمل ان تباشر الامانة بهذا المشروع الكبير ، والمطلوب ان نعلي صوتنا بالدعوة لتوثيق عمان ، كل عمان ، حتى لا يمر الزمن وتختفي عمان التي نحبها ونعشقها ، وتحل الابراج محل بيوت المحبة والنخوة والشهامة ولات ساعة مندم.
اشكر لبيت الشعر الاردني تلطفه بتكريمي ، بحضور هذه النخبة العزيزة: زوجتي واهلي واصدقائي ومحبي عمان ، واقدر لزملائي الذين تفضلوا بتقديم شهاداتهم عني ان اشكر ادبهم ووفاءهم وعطاءهم الموصول ، اشكر الاخوة نصر صالح ومعاوية ابراهيم ومحمد الارناؤوط وهند ابو الشعر وسلامة نعيمات ، وأسأل الله ان يحفظهم جميعا ، واشكر امين عمان ونوابه ووكلاءه ومدراء المناطق ، والشكر الخاص للاستاذ المرهف الحس حبيب الزيودي ، رمز العصامية والعطاء والابداع في زمن الكد والكبد ، والشكر موصول بكل المحبة الى الاستاذ محمد رفيع ، الذي ادار هذا اللقاء الاسري الحميم ، واسجل عرفاني وتقديري للعاملين في الدائرة الثقافية بأمانة عمان الكبرى ، وعلى رأسهم الصديق العزيز والشاعر الكبير عبدالله رضوان ، الذي يرعى كتبي وينشرها ويتأكد ان لا تبقى لديه نسخة واحدة منها في المخازن ، ومن دواعي سروري ان اشكر وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة على تكرمها بتغطية اخبار هذا التكريم.
وتبقى قصة عمان للكاتب العربي الكبير المرحوم عبدالرحمن منيف خير ما يعبر عن عمان ، عمان التي للأسف لم تنجب ابناء لها يعتدون بالانتساب اليها ، فكل ابنائها ينتسبون الى عشائرهم وقراهم ومناطقهم وهوياتهم ، ومع ذلك تبقى عمان بارة بهم ، تحنو عليهم وتسقيهم من كوثر سبيلها ، معظم المدن تنشأ على الانهار وعمان من راس العين والمصدار الى عين غزال ، لديها سيل عليه طواحين ودفلى وازهار ، وماؤها على ضآلته يبقى نقيا يشربه الناس سلسبيلا ولا يشرقون به ، انا لست عمان ولا يجوز لأحد ان يدعي انه عمان ، انا اسكن على اطراف عمان وعمان تسكنني على الدوام فاحموني من حبي لعمان واهلها واغيثوني.
* نص الكلمة التي القاها الكاتب بمناسبة تكريمه في بيت الشعر ـ امانة عمان الكبرى
الدستور