ثلاثية (ذاكرة المدينة)لمحمد رفيع..توثيق للحراك الإنساني فـي عمان
المدينة نيوز- يقول د.محمد عدنان البخيت، في معرض تقديمه للجزء الأول من كتاب ذاكرة المدينة للباحث محمد رفيع الحاصل على جائزة أفضل كتاب لجامعة فيلادلفيا للعام 2004: إن القراءة الدقيقة والأمينة والتي قدمها الباحث محمد رفيع لعقود تلك الفترة، أرضية صالحة لفهم التكوين الجنيني الأول في عمان، والتزاحم على المستقبل فيها، فاللغة هي الوطن، والحرف هو المعنى، والنهضة جماعية في ظل الاستقرار وتساوي الفرص، أمام كل الوافدين لعمان.
نعم، إنها المدينة التي تنادي على الزوار، تعالوا إليَّ افرح بكم، واشربوا من مائي فانه وان كان نزيرا، إلا انه زمزمي في مضمونه وكنهه.
تلك هي عمان، التي يوثق لها الباحث محمد رفيع وتصدر في طبعة جديدة، تلك هي أعوامها الخضراء، نقرأها من جديد في ذاكرة التراتيل التي لا تزال تنهض من أسفل أوديتها كدخان الضحى الندي، نعم أعوام تلو أعوام، وكل عام له وشم يقول للقارئين أنا.
يقرأ الباحث للحصول على ما لدينا من ذكريات (2161) عقدا امتدت من العام (28 -1938) ليبدأ الباحث سرد حكاية عمان من عام الزلزال...والمنجمين، عام الخوف والرعب والتذرع إلى الله، ولأعوام بدت طويلة لم يستخدم الناس سوى الخشب والزينكو لبناء بيوتهم بعد الزلزال، حتى انبرا الأقل إيمانا وخوفا كما يقول أهل عمان آنذاك، لبناء بيوت من الطين والقش، ليكونوا بعد ذلك هم القدوة فتتناثر بيوت الطين في فضاءات عمان وأحياؤها كالشابسوغ، والهاشمية، والأشرفية، والجوفة، ليقف الرمّال معلنا أن المدينة في أمان، وان مقهى المرحوم أول المقاهي، وأول الرضاء، وأول تباشير الحياة بعد الزلزال. للتوالى العقود وتنفلت الأيام من جرابها معلنة سريان الحياة.
عقود، ومواثيق، وذكريات كما يقول د. البخيت يؤرخ لها الكاتب محمد رفيع ، هي حياة الناس وتعيد في ذاكرة القارئ اشتعال الحنين، حتى تأتي ماتيلدا، السيدة الشقراء وتبدأ مواثيق وعهود جديدة وتتوسع المدينة وينهض جيل جديد، ويعلن الناس أن ذلك العام هو عام ماتيلدا.
كانت عمان تتكون على مهل، وتنام على مهل وتصحو على مهل، وتصغي للقادمين من بعيد على مهل، ليطلق على هذا العام عام الحبوب. وتستمر بعده الحياة توثق في هذه المدينة وتوثق بدورها للدولة الأردنية فيما بعد.
وتتوسع الحياة، وتتوسع حاجات الناس، وتنتشر المهن، فما أن تعبر في شوارع المدينة، الاشرفية، وطلال، والهاشمي، وسوق السكر، حتى تلحظ انتشار هذه المهن، وخاصة تلك التي يتقنها الشوام، كالسروجي، والخروجي، والفروجي، وغيرها والتي كانت تقرن بالقادمين من الشام، إلا أن المدينة التي لا تزال تلبس بعض الأزياء العثمانية قد بدأت تخلعها شيئا فشيئا، وتتخفف من ذكرياتها الحزينة، وتتمدد غربا وشرقا وناسها يغرقون في العمل والحياة طوال النهار، فكان ذلك العام عام الشوام والذي لم يكن تاريخ قدومهم وإنما تاريخ تغلغل حرفهم في حياة المدينة.
وتتشكل انوية الأحياء وتأخذ تجمعات الناس في النمو، لتقول زاروك بلتكيان وهي أقدم خياطات عمان للمؤلف في سياق رواية قصة قدومها لعمان مع أهلها من ديار بكر، كيف تشكل حي الأرمن في الاشرفية، ليؤكد المؤلف أن هذا العام هو عام الأرمن.
كان الناس في المدينة الفتية يبحثون عن عمل جديد بعد أن استقرت ملامح الحياة وفجأة تتوسع شركة البترول العراقية في عملها وتتناقل الناس أخبار العمل الجديد ليكون حديث الناس في ذلك العام.
ويستمر إيقاع الحياة في المدينة وتبدأ تأخذ أشكالا أخرى حيث اتجه الناس تدريجيا للزراعة والاهتمام بها وانتشرت عملية استئجار البساتين، وعدم الاهتمام فقط بالحرف، ليكون ذلك العام عام البساتين كما يقول المؤلف.
لقد بدأت المدينة تكبر وتكبر ، وبدأت عربات الخيل والبغال تختفي لتحل محلها الاوتومبيلات، وازداد عدد موتورات الكهربا، وبدأت مواسير المياه تصل للأحياء البعيدة، وانتشرت الشركات كشركة سنجر، والبترول العراقية، وفاكوم اويل، والفوسفات، وسبنس،.. حتى أصبح ذلك العام هو عام الشركات بلا منازع.
ويقدم الباحث في نهاية الجزء الأول العديد من الملاحظات والإيضاحات والتي قرأها من العقود التي أحصاها وتابع تواريخ إنشائها، في الفترة الممتدة من (28-1938).
تنتقل الحياة بإيقاعاتها، عام يقطف نتاج عام، وتتراكم السنون في عمر المدينة الجديد، وينتقل الباحث معها إلى فترة لاحقة، يقرأ من مواثيق وعقود تجاوزت (3067) عقدا تقريبا، موزعة بين عقود حكومية وخاصة، تصل أوراقها إلى ( 8000) ورقة، وتؤرخ للفترة من (38-1939)، مما يعكس حجم الفعل البحثي المضني الذي قدمه الباحث للقارئ عن تلك الفترة، في جميع مجالات الحياة راصدا تطور حجم المدينة ووعي أهلها، الذي يتراكم كما مساحات البناء والامتداد العمراني لها. ففي هذا الجزء الذي قدم له الأستاذ ناصر الدين الأسد يبدأ الباحث بعام جديد، عام الجزيرة، جزيرة الجامع الكبير، أو سرّة عمان، وهي مجموعة من المحلات التجارية محاطة من جميع جهاتها بالشوارع..وبهذا العام تتغير وتتبدل ملامح الحياة والأسواق، وببطء تتمدد الأسواق والشوارع، فطريق إلى الشمال، حيث السلط، وطريق إلى الجنوب، حيث مادبا، وطريق إلى الغرب، القدس..
وتنير الكهرباء مساء المدينة، رغم عدم قناعة البعض بها وتمسكهم باصالة القناديل العتيقة، انه عام القناديل، والبلاط الصيني، والبساتين الجميلة.
ليليه بعد ذلك عام البيلسان، شجرة بيلسان السيدة افنونة التي توسطت أعواما طويلة شارع طلال باسقة فوق سور البيت، ترعى امتداد العمران إلى جبل عمان الجديد، وجبل الملفوف. ويبدأ النهش في التلال المجاورة للحصول على الرمل والحجر في عام خضرة اليتيم، إحدى جارات الكنيسة التي تمسك بأطراف سر المدينة. وتلوح في الأفق نذر الحرب، ويحل الجشع في عام المرابين، ويطبق الكساد على الناس، وتبدأ أمراض اجتماعية كالغش،غش الزيت، حتى فاض النهر من الغيض في نهاية العام1943، ليستمر الخوف والقلق يخيم على الناس، وتتسع المسافة بين وسط عمان وعمان الغربية، لتقصر الاوتومبيلات المسافة في عام الاوتومبيلات، وعام الندوة الأدبية، أول الأندية الثقافية الأدبية، والذي كان الرئيس الأول له العلامة ناصر الدين الأسد، لتأتي الانتخابات برئيسه الثاني المحامي رفعت الصليبي.
الحمّام من نعيم الدنيا، حيث كان عام الحمّام، وذكرياته التي لم تفارق المدينة، كمعلم من أهم معالمها، انه عام الحمّام.
آلاف العقود والأسماء التي تناثرت ذكرياتها على صفحات هذا الكتاب، والتي لا يمكن رصدها بسهولة.
ويقع الباحث في الجزء الثالث من كتابه ذاكرة المدينة على كنز من الذكريات التي اختزنتها العقود والمواثيق التي سجلت في الفترة من (46-1959) ، فهو في هذا الجزء إضافة إلى الجهد التوثيقي، والأكاديمي الموجود في متون هذه العقود، يقدم للقارئ شخوصا روائية تعيش الحدث وتنسج ملامحه، ويعيد نفخ الروح في المدينة العتيقة لتقرأ هي بصوتها المبحوح جزءا من تفاصيل عمرها غير البعيد.
انه في ما يقدم من ذاكرة للأعوام التي مرت كطيف على وجه المدينة إنما يرسم مرجعا وسفرا من أسفار تلك المدينة، يبرز ملامح الحياة العمرانية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمهنية وغيرها من أوجه الحياة.
ويعرض الباحث في الجزء الأخير لعدد من الأعوام، ويقرأ من تقاسيم وملامح هذه الأعوام كعام الأوراق، كانت المدينة ترقب وتتحول.. والكبار يرقبون دون أن يتحولوا، أما النهر والأوراق ففي الظاهر لم تلحظ عليهما هذه التحولات. وحده الحبر تغير، ووحدها الأقلام التي تحز الورق وتحفه تغيرت، أما النهر فرغم تحولات الحبر والأقلام فقد ظل يملك القدرة على محو الحبر عن هذه الأوراق، وفي لحظة غرور أو كبرياء كان يمكن أن يذيب حتى الأوراق ذاتها. وعام الرحيل، والعيون، والطرابيش، والجزيرة، والسهر، والعمران، والنقطة الرابعة، والطيران، والوحدات الجديدة، والمقابر، والكهنة والعرافين، والأحفاد والورثة. وينهي الباحث هذا الفعل البحثي الكبير الذي يليق بسيدة المدن، بقبضة من روح رواية المدينة التي تملأ الفضاء، ويشرب من نهر حروفها حفنة من الأحاديث الجميلة.