بداية تحوّل ثقافيّ
ليس من باب الأمانيّ القول بأنّه منذ انطلاق الثورة في العالم العربيّ الإسلاميّ حصلت تحوّلات أكبر من التحوّل السّياسيّ الذي تشهده المنطقة، وعلى رأس هذه التحوّلات تحوّل ثقافيّ آخذ بالتوسّع والانتشار، قد لا يراه المتابع لكثرة التغييرات والسّرعة التي تتمّ بها، ولانشغاله بأحداث السّاعة المهمّة بلا ريب.
لو قلت قبل عامين إنّه سوف يقبع زبانية وفراعين العصر في الزنازين والمنفى ويقود البلاد أناس مخلصين قضوا سنوات طويلة في الزنازين والمنفى - لإخلاصهم وتصدّيهم للظلم ووقوفهم إلى جانب حقوق النّاس وليس العكس - لضحك من حولك وظنّوا أنّها آخر نكتة شعبيّة.
كان الخطاب الشعبيّ العام مليء باليأس والتثبيط نظرًا لثقافة الانغلاق والانهزام والانكفاء على الذات التي روّجت لها الأنظمة وأبواقها بأشكالها المختلفة، وكان نقدك بحرف للحاكم "بأمره" يسبقه ألف حساب لأجهزة المخابرات والجواسيس والعملاء الذين يتابعون كلّ صغيرة وكبيرة يقوم بها الإنسان العربيّ والمسلم الباحث عن حقوقه وحريّته وكرامته التي افتقدها.
سادت ثقافة "الحيطان لها آذان وأعين" و"سيبك من السّياسة كلّها نجاسة" و"يجب طاعة وليّ الأمر ولو كان فاسقًا ظالمًا درءًا للفتنة" و"حطّ راسك بين هالرّوس (رؤوس) وقول يا قطّاع الرّوس"، وغيرها الكثير من الأمثلة الانهزاميّة التي نتجت عن أنظمة الفساد والعمالة والتخلّف ومن خدمها بعلم أو بغير علم، وتجذّرت بوجدان الإنسان العربيّ بعد النكبات والنكسات المتتالية، اللهمّ إلّا من آمن وعمل صالحًا وصمد في وجه الطّغيان وسار في طريق المقاومة.
لكن سرعان ما تغيّر الواقع منذ انطلاق الثورة في العالم العربيّ والإسلاميّ، فشهدنا صحوة سياسيّة أنتجت وعيًا سياسيًا (ولو محدودًا في بعض الحالات) ما كان له أن يتمّ لولاها لعقود. فجاءت الثورة العربيّة بعد الصّحوة الإسلاميّة لتقول للعرب والمسلمين إنّ دينهم ناقص وعروبتهم ناقصة بدون الوعي السّياسيّ، فليس المؤمن من ينغلق على ذاته، بل الذي ينفتح على العالم من حوله، يتعلّم ويعلّم ويؤثّر إيجابيًا في النّاس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ما ذكرناه يكفي للإجابة على الذين يخشون من المستقبل المجهول - وهذا حقّهم - والذين يقولون إنّ الإسلاميّين سوف يلبسون الدكتاتوريّة القديمة ثوبًا دينيًا مع تمسّكهم بالسلطة، فعلى هؤلاء أن يدركوا أنّ تلك التحوّلات الجذريّة لا تقبل ظلمًا تحت شعارات مقدّسة من الإسلاميّين أنفسهم قبل غيرهم، فالتغيّرات في عالمنا العربيّ والإسلاميّ لا تقتصر على فئة دون أخرى بل تشمل الجميع على كافّة المستويات. ومن استطاع إسقاط طاغية بصبغة ليبراليّة أو علمانيّة يستطيع أن يسقط طاغية بصبغة دينيّة، لأنّ الطغيان ضدّ الدّين ولو حاول البعض ستره بالدّين، وأهل الإسلام أوّل من سيتصدّى لهؤلاء الطغاة.
إنّ الحقّ والحريّة والكرامة عناوين ثقافة جديدة بدأت تتبلور من حولنا رغم أنف المفسدين، ووعي الشعوب كفيل بحماية هذه الثقافة وتطويرها والسّير بها نحو مستقبل أفضل نحلم به، يعيد للأمّة مجدها وعزّها وكرامتها.