العالم يتيم وليام فولكنر منذ خمسة عقود: الإنسان لن يصمد بل سينتصر
المدينة نيوز - في قصة "البقايا" القصيرة للمكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس، ينصرف الطاهي الشهير ديونيسيو الى تقويم سخريّة التاريخ لجهة خسارة المكسيك في 1848، أراضي ستشكل لاحقاً جنوب غرب الولايات المتحدة الأميركية. في إحدى لحظات القصة ذات الأسلوب المسنّن، يسأل سيدة قبالته: "في ماذا تفكرين؟"، فتجيب: "أفكر في فولكنر. أتأمّل كيف يستطيع عبقري أدبي ان يخلّص أمة". يستفزّه الكلام فيردف معترضا: "الكاتب لا يمكنه أن يخلّص أي شيء، تخطئين". لكن حنقه لا يكبح كلامها: "أظنك أنتَ المخطئ. برهن فولكنر ان ثمة امكاناً ان تتجاوز أحلام الجنوب العنف والعنصرية والأفكار المسبقة." في هذه الجملة جلّ ما قدمه وليام فولكنر، الكاتب الذي صار العالم يتيمه منذ خمسة عقود.
يمكن البدء من حيث خلدت ذكرى فولكنر الى جوار كلامه المأثور عن الماضي الذي لم ينته، والذي لم يمض حتى. نتخيل عناوينه في هذا السياق، نصوص لن تنتهي وليس مرجحا ان تمضي الى غير استعادة. تأرجح فولكنر بين التيه الحذر والثقة الورعيّة وكان أشهر سكان اوكسفورد في ولاية ميسيسبي. أغبطته الإقامة في بلدة ناعسة شبيهة بأرض للطوابع البريدية تم تحويلها على مرّ روايات وقصص عدة لتصير مكان فولكنر الحصري.
في أحد ايام 1956 حاورته مجلة "باريس ريفيو" واستفهمته في شأن صعوبة إدراك نصوصه وذلك بعد قراءة ثانية وثالثة حتى، ليقترح الكاتب حلّ القراءة الرابعة! على قدر ما يتبدّى الجواب غير مكترث، يفضي بالحقيقة المحورية حول منجزه. ليس أسلوب فولكنر التأليفي عسيرا فحسب بل قاتم أيضا وعن عمد، حيث يسترسل في جمل تفيض على الصفحة الواحدة، لا يتوانى في وسطها عن تدجين علم النحو ليتراءى سليل لغة أجنبية، لا تمتّ الى الإنكليزية. كان اثر الأميركي متعدد الطبقة، لا يشي بكليّته سوى لمن جالد، سوى لقارئ لا يتردد إزاء المثابرة. لحسن الحظ بالمطلق وحظنا خصوصاً، اقتنعت دار "راندوم هاوس"، ناشرة فولكنرة، بهذه المسلّمة، وها إنها تعيد في ذكرى رحيل فولكنر الخمسين، اصدار ست طبعات فاخرة من اكثر رواياته شهرة وحداثة، فضلا عن المجموعات القصصية، وذلك بين موسمي الربيع والصيف هذين.
في معايير شتى كان فولكنر أقرب نموذج أميركي الى الفرنسي بالزاك من حيث التمهل عند التفاصيل المعيشة اللصيقة بـ"الحياة الصغيرة"، ليتموضع في السياق عينه في مقدمة كتّاب التخييل المحدثين. في غضون نحو عشر سنين فحسب، من طريق "الصوت والغضب" (1929) و"فيما أستلقي مَيتاً" (1930) و"الضوء في آب" (1932) و"أبشالوم، أبشالوم!" (1936) وهي عناوين أثارت حفيظة النقاد في مرحلة أولى لكونها غير تقليدية وتجريبية، بدّل وليام فولكنر معطيات جغرافيا الأدب الأميركي. لم يستقدم التحديثات الأوروبية الى مسقطه فقط وانما جعل تربة ميسيسيبي حاضنة أساطير ستحدد معضلة الكيان الجنوبي في اعقاب الحرب الأهلية وشروط وجود أميركا في مواجهة القرن العشرين المضطرب.
ربما تكون شخصيات فولكنر صدئة بعض الشيء في منظور الحاضر، غير ان مقاربته لظلامية الأحاسيس البشرية آنية الى حد بعيد. ها إنه في "وردة لأميلي"، إحدى اكثر قصصه القصيرة قراءة، يترصّد عجوزا جنوبية تخطف حياة عشيقها غير انها تواظب على تدجين النوم قرب جثته. والحال انه وقبل إقدام ادوارد سعيد على التوقّف عند تبعات العنصرية المريرة، فسّر فولكنر في "أبشالوم، أبشالوم!" كيف استتبت العبودية خطيئة أميركا الأصلية.
من محل اقامته الكتابية، صار فولكنر صانع حكايات أسطورية حيث اؤتمن على التمييز بين المعطيات والحقيقة. المعطيات في اقتناعه مفتوحة على مقاربات عدة، أما الحقيقة فمسألة أخرى، غير خاضعة لأي تأويل. نبذ فولكنر كل الرغبات لتصنيفه رجل الآداب، ليعاين نفسه "مزارعا يروقه سرد الحكايات"، عابرا في خطاب تسلمه جائزة نوبل الآداب في العاشر من كانون الاول 1950 الى أكثر أعماقه صدقا. أعلن: "أشعر ان هذا الامتياز لم يمنح لي رجلا وانما أعطي لكتاباتي. انه عمل حياة ألقي في نزاع الروح الإنسانية وعَرَقَِها، ولم يتوسل قطف المجد او المردود المادي. أردت ان أخلق شيئا استنبطته من مواد الروح الإنسانية، شيء لم يكن موجودا قبلذاك". ليس في الكلام ادعاء. شدّد فولكنر على التراجيديا المعاصرة العامة والكونية كذلك، الخائفة على مآل الجسد، في حين حيّدت الى أقصى حد، كل الإشكاليات التي تخص الروح. تناسى الكتّاب محن الإنسان المأخوذ الى صراع مع نفسه ليغفلوا انها المحنة الوحيدة القادرة على انتاج كتابة جيدة، تستحق المكابدة واهراق العرَق.
بين دفتي حياة فولكنر وتخييله مجمل ما يستحق التوقف عنده. نرجع في سيرة خصصها له فريدريك ر. كارل بعنوان "وليام فولكنر: كاتب أميركي" الى طفولته ميسيسيبي، الى مقلع المواقف الإجتماعية التي سادت في بيئته التأليفية، الى صورة واضحة الملامح تظهر من خلالها بوادر مناخ روائي عنيف وخاص. في ذاك الركن فولكنر اليافع الذي يخسر موقتا زوجته الموعودة استيل لمصلحة منافس يتخطاه إجتماعيا. وهناك فولكنر إضافي نتابعه يترسم مسار الشاعر في صيغة القرن التاسع عشر الرمزية، وينصرف الى جمع الثقة الضرورية والملحّة للحاق بعطية الكتابة.
لا لبس في الإعلان ان التفاؤل العنيد هو تركة فولكنر الأساسية. نرجع الى خطاب نيله نوبل الآداب الذي حلّ بعد وقت وجيز على حرق جسد هيروشيما باللهيب النووي. في زمن حيث بلغت التحديثات النووية والتكنولوجية مستوى مخيفا، لم يقلل فولكنر من شأن التهديد المحدق بالبشرية، بيد انه آمن بقدرة المرء على مجاراته. بسبب إيمان فولكنر بالإنسانية، أطلق نبوءته الشهيرة "لن يصمد الإنسان فحسب، بل سينتصر". بعد خمسين عاما على غيابه يبقى من فولكنر راهنا وجهة النظر تلك، تأتينا بمقاربة طازجة للحداثة في حين تتصيّد، في عنف، المجموعات التقليدية.
أنقذت الأعوام كليشيه فولكنر في كهولته، صاحب الشارب الأريستوقراطي الممسك بغليون في يده، غير انه كان قبلذاك الشاب المضحك والمراقب الصارم للطبيعة البشرية. في مدرسة الكتّاب الكبار، حفر أسس مبان أدبية شاهقة، من وحلِ المواد الخام. وسّع البيئة الجغرافية الضيقة في القرية لتصير مساحة تنوب عن سكانها الفرادى اولا وتصوغ هويات جماعات من كل حدب وصوب، لاحقا. ( النهار )