مقاطعة التسجيل ... ضرب تحت الحزام!
كنت أتمنى على الحركة الإسلامية والقوى الأخرى الداعية إلى مقاطعة الانتخابات ترشيحاً واقتراعاً أن تحيّد عملية التسجيل عن موقف المقاطعة الذي هو حق سياسي ودستوري لأصحاب هذا الموقف. فالتسجيل في سجلات الناخبين وتوسيع قاعدة المسجلين إلى أقصى حد مسؤولية وطنية وتاريخية تقع على كل أطراف العملية الانتخابية، بما فيها الإخوان المسلمين وجبهة العمل الإسلامي، وليست مسؤولية الحكومة أو الهيئة المستقلة للانتخابات وحدهما.
أقول إنها مسؤولية وطنية وتاريخية لأن الهيئة المستقلة للانتخابات اختارت الطريق الأصعب للتأسيس لنزاهة العملية الانتخابية، ألا وهي طريق إعادة التسجيل بالكامل للمواطنين الذين يملكون حق الانتخاب، وليس طريق مراجعة سجلات الناخبين السابقة وتصويبها وتدقيقها. فمن المعروف أن عملية إعادة تسجيل الناخبين تتطلب فترة زمنية طويلة قد لا تقل عن عام في حالات الدول الأخرى، بينما يجب أن تنجز هذه العملية في غضون شهر، أو أكثر قليلاً، إذا ما مددت فترة التسجيل. لكن التمديد مقيد بمواعيد أخرى تتعلق بإعلان سجلات الناخبين وفتح باب الاعتراض عليها ونشرها بصورتها النهائية قبل فترة كافية من فتح باب الترشيح.
في سنوات سابقة، وتحديداً عندما وضع قانون الانتخاب لعام 2001، إعتبرنا اختزال إجراءات تسجيل الناخبين وإحالة العملية برمتها إلى دائرة الأحوال المدنية مكتسباً مهماً، لأن ذلك يعفي المواطنين من مشقة اجراءات التسجيل، ويختزلها في حدود استلام البطاقة الانتخابية. لكن هذه الخطوة أُستغلت أبشع استغلال في عمليات ترحيل الأصوات الناخبة، وفي تسهيل عمليات التزوير المبكر، عن طريق إعادة تشكيل الهيئات الناخبة في كل دائرة وفقاً لمصالح المرشحين النافذين، وبمعزل عن رأي سكان الدوائر ذاتها التي يتغير قوام ناخبيها بدون علمهم. هذا عدا عن أن الاجراء السابق كان يحول دون تحديد الهيئة الناخبة في مراكز الاقتراع مسبقاً ويكتفي بتحديد دوائر الناخبين، وهكذا لم يكن معروفاً سلفاً العدد المحدد للناخبين المسجلين في كل مركز، وهو الأمر الذي كان يتسبب في اكتظاظ بعض مراكز الاقتراع بعدد من الناخبين يفوق طاقة الهيئة المشرفة على الانتخابات فيها، فيما يقل عدد المقترعين عن الحد الأدنى في مراكز أخرى. إضافة إلى أن هذه العملية كانت تسهل عمليات التزوير وتصعب إجراءات الرقابة على الاقتراع، لعدم وجود قوائم محددة من المقترعين لكل مركز اقتراع.
وهكذا فإن عملية تسجيل الناخبين التي شرعت فيها الهيئة المستقلة للانتخابات قبل أيام لن تخدم الانتخابات القادمة فقط، وإنما سوف تخلق الأرضية لبناء قوائم ناخبين مستقرة تخدم الانتخابات التي تليها. بحيث لا تحتاج الهيئة إلى إجراء إعادة تسجيل شامل في كل انتخابات، وإنما إضافة وتعديل السجلات على ضوء حركة السكان أو حالات الوفاة أو دخول مواطنين جدد سن الاقتراع. وعليه فإننا نجدد القول بأن مقاطعة الانتخابات المقبلة يجب أن لا ينسحب على عمليات التسجيل، وإلا دخلت في باب الضرب تحت الحزام، لمجرد إحراج الحكومة والهيئة المستقلة للانتخابات، واذا ما تبين قلة عدد المسجلين مقارنة مع الملايين الثلاثة، وهو العدد التقديري للناخبين.
إن أسهل المواقف السياسية وأقلها كلفة هو الإحجام عن المشاركة في تسجيل الناخبين، أو إشاعة موقف سلبي من عمليات التسجيل. فهذا "الانجاز" يمكن أن تنسبه إلى نفسها "أنيط" قوة سياسية في البلد. فالكل يعرف أنه إذا ما تركت المسألة للمواطنين أنفسهم فإن أغلبهم لن يكلف نفسه عناء الذهاب للتسجيل. تلك ثقافة مجتمع، خاصة في المدن والحواضر، والتي سادت في عهود لم تعرف المقاطعة، وإنما ثقافة "التطنيش" والاستنكاف، بسبب الاعتقاد الجازم بأن "لافرق بمشاركة أم بغير مشاركة"، وهذه ليست بثقافة سياسية، ولا تعبر بالضرورة عن موقف سياسي، وإنما عن عدمية ضارة بكل فرقاء العملية السياسة.
إن مسؤولية مقاطعي الانتخابات تجاه عمليات التسجيل هي أن يؤكدوا أن موقفهم من مقاطعة الانتخابات، وهو حق لهم، لا يجب أن ينعكس سلباً على حقوق المواطنة وعلى مصلحة البلد والمجتمع ككل، فهذه المصلحة تكمن في توسيع قاعدة الناخبين، لهذه الانتخابات والانتخابات التي تليها. فالمقاطعة لا يجب أن تختزل بتسجيل المواقف الإعلامية، وإنما تتطلب مباشرة الاتصال بالناس وحثهم، من الآن، على الإقبال على التسجيل، بل وتنظيم حملات وطنية للتسجيل، وفي غضون ذلك، فإن من حق المقاطعين أن يشرحوا للناخبين المسجلين لماذا هم يقاطعون، وأن يمارسوا عمليات "التثقيف" اللازمة لهم حول موقفهم من هذه الانتخابات.
ثم من قال أن الفترة الفاصلة حتى الموعد الافتراضي للانتخابات لن يحمل تطورات مفاجئة قد تسقط مبررات المقاطعة، ولماذا لا نسلح ملايين الناخبين ببطاقات الانتخابات، إذا ما جدت تطورات مفاجئة قد تحمل على العودة عن المقاطعة، كأن يتم تأجيل موعد الانتخابات، وأن يتم إدخال تعديلات إضافية على قانون الانتخاب تستجيب لمطالب المقاطعين (وبالأحرى الأوساط الأوسع من القوى والفعاليات السياسية). إني شخصياً أشارك القناعة أن هذا ما سوف يحدث، حتى وإن أكد رئيس الوزراء د. فايز الطراونة على عكس ذلك.
إن المشاركة الفاعلة في التسجيل من قبل الإسلاميين ليس "شيكاً على بياض" يصرف لصالح الحكومة، وليس تنازلاً عن ورقة تفاوضية دون مقابل، إنها دليل حسن نية تجاه المجتمع، وبرهان على إرتقاء حس المسؤولية السياسية تجاه المواطنين، وتعني أن المقاطعين لن يستخدموا ورقة التسجيل لحسابات حزبية وذاتية ضيقة، وإنما هم يجيروها للوطن والمجتمع، بل إنهم لن يترددوا بالتضحية بها- كورقة مساومة مع الحكومة- لغاية أسمى، ألا وهي رفع عدد المسجلين، وإظهار أن الأردنيين ناضجون بما فيه الكفاية لممارسة الديمقراطية والحقوق الانتخابية، بدلالة ارتفاع عدد المسجلين، حتى عندما لا يكون البلد في أحسن أحواله.
واسمحوا لي في الختام بفتح قوسين لمخاطبة الهيئة المستقلة للانتخابات، ورئيسها السيد عبد الإله الخطيب: لماذا لا توسع هامش استقلالية الهيئة عن الحكومة ومواقفها الرسمية، فما الذي يمنع إتصاله المباشر مع جماعة الإخوان المسلمين وعموم القوى السياسية والاجتماعية لطلب دعمهم لعمليات التسجيل. ولماذا يكتفي بالاجراءات البيروقراطية، مثل فتح مكاتب دائرة الأحوال المدنية ليلاً أمام المواطنين للحصول على البطاقات الانتخابية، في حين أن الانفتاح سياسياً على القوى السياسية، ولاسيما المعارضة والمقاطعة، أجدى وأسرع مردوداً. ولماذا تتحمل الهيئة أوزار اللغة الحكومية المنفرة لكل حوار؟ أوليست هي هيئة مستقلة للانتخابات؟!
أما الأحزاب السياسية التي إتخذت مواقف داعمة للتسجيل، وتحديداً أحزاب المعارضة والمقاطعة منها، فإنها تستحق التحية على مواقفها هذه، لكن الخطوة الأهم هو خلق أطر جماهيرية للمساهمة في تنظيم عمليات التسجيل، وليس مجرد أخذ مواقف سياسية مجردة.
مركز الأردن الجديد للدراسات