ثقافة العولمة 00
هناك أتفاق عام على أن العولمة اتجهت من خلال السيطرة الانكلوساكسونية على مظاهرها المختلفة ، إلى الأمركة ، باعتبار أن الولايات المتحدة غدت القطب العالمي الأوحد بعد انتهاء الحرب الباردة من جهة ، وباعتبارها فعلياً أقوى دولة على وجه الأرض من جهة أخرى 0
والولايات المتحدة لا تخفي نواياها للتفرد بقيادة العالم والسيطرة عليه في مجالات السياسة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا ، تحت زعم أن تلك السيطرة ستكون في صالح الجميع 00 إذ صرح أكثر من مسؤول أمريكي بأن القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون قرناً أمريكياً وبالتالي فإنه من غير المسموح لأي طرف في العالم أن يكون منافساً للولايات المتحدة أو حجر عثرة أمام قيادتها العالمية 0
وقد حاولت الولايات المتحدة تمويه رغبتها الجامحة في السيطرة على العالم بذرائع عديدة وشعارات براقة تتصل بنشر الحرية والديمقراطية ، إضافة إلى إدعاءاتها بالحرص على حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والحفاظ على الأمن العالمي ، بل أن بعض التيارات في أمريكا ذهبت بعيداً بالادعاء بان كل ما تقوم به الولايات المتحدة إنما يجسد الخير ، وأن ما سواه لن يجلب إلا الشر والتعاسة 0
ونتيجة لذلك ، يمكن فهم موقف الولايات المتحدة السلبي جداً من حضارات الأمم والشعوب وموروثها الثقافي والأخلاقي ، من خلال الاستخفاف بتلك الحضارات أو تجاهلها والحط من شأنها حيث لا تعترف الولايات المتحدة إلا بنمط الحياة الأمريكي القائم على سلطة المال والقوة وديمقراطية النخبة من رجال المال والأعمال ، وهكذا فإن تقييمها لحضارة أية أمة سواها قائم على مدى اقتراب أو ابتعاد تلك الحضارة عن المفهوم الأمريكي الخاص للحضارة 0
وبناء على ذلك فإن الولايات المتحدة وبمساعدة من حلفائها العولميين ـ تعمل جاهدة على نشر مفاهيمها الثقافية وقيمها الأخلاقية وعاداتها وسلوك مواطنيها في جميع أرجاء المعمورة حتى ولو تم ذلك بشكل اعتباطي ، وذلك من خلال وسائل وأساليب كثيرة ومتنوعة ومتداخلة تخدم كلها أهدافاً استراتيجية محددة تتمثل في خلق أنماط سلوكية وفكرية تؤدي إلى مواقف وردود أفعال منضبطة ومصممة سلفاً للتأثير على الأفراد والجماعات تجاه ما يحدث في واقع الحياة ، ليكون هؤلاء على تكيف شبه تام مع توجهات وأهداف العولمة ، دون خشية من معارضة حقيقية ، في ظل العمل بكل وسيلة ممكنة لمنع قيام تنظيمات جماهيرية مضادة للعولمة 0
ومن أجل هذا ، فأن ثقافة العولمة تركز بشكل كبير على دغدغة الأحلام وترويج الأوهام بين الأفراد والجماعات مثل إمكانية الحصول على الثروة والمنزلة الاجتماعية من خلال مصادفة عرضية ما 0
رغم أن تلك الأوهام تظل على موعد مع الارتطام بحقائق الواقع ، ليكون الإخفاق من نصيب الأكثرية الساحقة من الناس ، في ظل أوضاع عالمية تتحرك وفقاً لصالح النخب العليا0
غير أنه يجدر الاعتراف بما حققته الأمركة حتى الآن من اختراقات على الصعيد العالمي من خلال الإنتاج السينمائي والتلفزيوني الأمريكي الذي يبلغ نحو 80% من مجمل الإنتاج العالمي في هذا المجال ، إضافة إلى الوقع الخاص لكلمة الدولار في الأسماع ، وكذلك مشروب الكوكا كولا وسراويل الجينز وموسيقا الروك الصاخبة وأنواع السجائر ، ووجبات الطعام السريعة حيث تنتشر مطاعم ماكدونالدز على سبيل المثال في أكثر من 100 مدينة في العالم ، وغير ذلك من وسائل أعطت الولايات المتحدة نوعاً من الجاذبية لدى قطاعات واسعة في كثير من أنحاء العالم وخاصة بين الأجيال المفتونة بالمظاهر البراقة 0
وقد لا يكون كل هذا غريباً أو مستهجناً ، حيث أن الطرف الضعيف عادة يحاول أن يقلد من هو أقوى منه في مجالات عدة ، وهذا أحد القوانين الاجتماعية شبه الثابتة على مدى التاريخ والولايات المتحدة تستثمر هذا القانون إلى أقصى مدى ، ليس فقط من أجل تبرير سلطانها وسيطرتها ، وإنما أيضاً لتكريس استقطاب نفسي منحاز لثقافتها بين الأفراد العاديين وبعض النخب ، وفي هذا ما فيه من سلبيات أقلها تجاهل ظروف المجتمع المحلي والعزوف عن المشاركة في حل مشكلاته ، والوقوف على أسباب تلك المشكلات 0
أما الذي تتكتم عنه ثقافة العولمة بوجهها الأمريكي وتخفيه فهو أن العولمة ـ باعتراف مفكريها أنفسهم تحمل العديد من الطروحات الخيالية مثل الزعم بأن العولمة هي الترياق ، الذي يشفي البشرية من أمراضها ومشكلاتها ، مع أنها قائمة فعلياً على المظالم وعدم المساواة أمام القوانين وتوسيع الهوة بين من يملكون كل شيء وبين من لا يملكون شيئاً ، إضافة إلى استخدام القوة ومحاربة الإجراءات التعسفية ضد من يصنفون في قائمة الخصوم أو المعارضين والتباهي المخجل بقدرات الأسلحة المتطورة واستخدامها في إرهاب الدول الضعيفة ، وكل هذا بمعزل عن القيم الإنسانية التقليدية التي تحض على التعاون والعدالة والرحمة والفضيلة ، التي لا يمكن أن تستقيم أية حياة دونها ، وهذا ما تضرب به ثقافة العولمة عرض الحائط 0