1984.. الرواية التي قتلت كاتبها

تم نشره الثلاثاء 19 أيّار / مايو 2009 02:46 صباحاً
 1984.. الرواية التي قتلت كاتبها
العرب اليوم - امل الشرقي

المدينة نيوز- كان يوما باردا ومشرقا من ايام نيسان, وكانت الساعات تدق الثالثة عشرة.

هذه الجملة التي ابتدأ بها جورج أورويل روايته الشهيرة 1984 ما زالت تباغت الاجيال الجديدة من القراء تماما كما باغتت اول قرائها عام صدورها في .1949

الرواية التي تتحدث عن الحياة في مجتمع سلطوي مطلق تنسحق فيه فردية الانسان وتنعدم فيه فرص الخلاص, اصبحت فور صدورها واحدة من اهم الاعمال الادبية التي أنتجت في القرن العشرين. وقد شهد عام 1984 وهو العام الذي تنبأ له أورويل ان يكون عام انتهاء الحريات. احتفالات واسعة تناولت الرواية من جميع جوانبها النفسية والسياسية والايديولوجية, ولعل القراء في جميع انحاء العالم قد تنفسوا الصعداء لان نبوءة أورويل لم تتحقق, على الاقل, بشكلها الكامل مطلق السوداوية.

رواية (1984) عادت لتلفت إليها الانظار مؤخرا بعد ان نشرت صحيفة الاوبزرفر البريطانية إتهاما للرواية بأنها قتلت كاتبها.

كان جورج أورويل قد التحق بصحيفة الاوبزرفر عام 1942 حيث عمل فيها مراجعا للكتب ثم مراسلا. قبل ذلك كان قد شهد الحرب الاهلية الاسبانية وأصيب بخيبة بالغة للنتيجة التي انتهت اليها بعد عام من التسكع في اوروبا, عاد أورويل الى بريطانيا رجلا مريضا, مصدوما, فاقدا للأمل, يحمل في ذهنه بذرة الرواية الجديدة التي كان قد اختار لها في البداية, اسم آخر رجل في اوروبا يذكر اسحاق دويتشر, الذي كان زميلا لأورويل في الاوبزرفر ان أورويل قد اخبره بأن المصدر الذي أوحى اليه بالرواية هو اجتماع زعماء الحلفاء في طهران عام .1944 يقول دويتشر كان أورويل مقتنعا بأن ستالين وتشرتشل وروزفلت قد تآمروا على اقتسام العالم فيما بينهم.

مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية, كانت صورة العالم المظلمة كما انعكست في رواية (1984) تتشكل في ذهن الكاتب بعد ان أضيف اليها بعد مأساوي آخر تمثل في وفاة أيلين زوجة أورويل عام 1945 في عملية جراحية أجريت لها بينما كان هو بعيدا في مهمة صحافية في اوروبا.

عرض ديفيد أستور, رئيس تحرير الاوبزرفر وصديق أورويل المقرب, على صديقه المنكوب قضاء فترة استجمام في دار يملكها أستور تقع في ارض زراعية نائية في اسكتلندا. وهكذا وجد أورويل نفسه في أيار 1946 يلملم بقايا حياته المتشظية ويحمل معه ابنه بالتبني الذي كان طفلا صغيرا ويرحل الى جزيرة جورا في اقصى الشمال الاسكتلندي يحدوه الامل بأن يتمكن من كتابة روايته الموعودة.

كان شتاء عام 1946- 1947 واحدا من أبرد الشتاءات التي عرفها القرن. وكان على أورويل ان يواجه متاعب صحته الضعيفة وشح الموارد في بريطانيا ما بعد الحرب في ذلك الركن القصي, لكنه كان سعيدا بالتخلص من متطلبات العمل الصحافي اليومي. كتب في حينه لصديقه آرثر كوستلر مختنقا تحت وطأة الصحافة, أجدني ازداد شبها كل يوم ببرتقالة معصورة.

في البداية, وبعد الشتاء الذي قال عنه انه لا يُحتمل, غزا قلب أورويل الاعجاب بجمال المكان ومزايا العزلة. وفي ربيع 1947 كتب الى وكيل اعماله الادبية يقول: انني أصارع هذا الكتاب الذي قد انتهي منه بنهاية العام.

كانت الحياة في جورا بسيطة, بل بدائية, لم تكن هناك كهرباء. كان أورويل يضيء ليله بالمصابيح النفطية, ويتدفأ على الفحم, وكان جهاز الراديو الذي يعمل بالبطارية وسيلته الوحيدة للاطلاع على ما يجري في العالم.

كان أورويل رجلا رقيقا, زاهدا في الامور الدنيوية. ولم يحمل معه الى تلك الجزيرة سوى سرير متنقل, ومنضدة وكرسيين, وعدد قليل من الاواني والقدور. كانت حياة بالغة التقشف, لكنها كانت الحياة التي توفر لأورويل الظرف الذي يحلو له العمل فيه.

في مقالة له بعنوان لماذا اكتب وصف اورويل حالة الصراع التي يعيشها من اجل انجاز كتاب. يقول اورويل ان كتابة كتاب معركة فظيعة تستنزف القوى مثل مرض مؤلم طويل, وليس للمرء ان يضطلع بمثل هذه المهمة لو لم يكن مدفوعا بشيطان لا يقوى على مقاومته ولا يقدر على فهمه.

تواصلت معركته الطويلة مع آخر رجل في اوروبا. ألجأه وضعه الصحي المتردي الى استدعاء شقيقته افريل الى الجزيرة للعناية به وبولده الصغير.

كان يعمل بوتيرة محمومة, وكان صوت الآلة الطابعة لا يكاد يتوقف في غرفته في الطابق الثاني من دارة استور, وما لبث ان انهار في تشرين الثاني 1947 تحت وطأة التهاب رئوي, وفي ذلك العام وقبيل اعياد الميلاد حملت رسالة من اورويل الى كوستلر النبأ الذي كان يتوقعه ويخشاه: لقد شخصت حالته اخيرا بالتدرن.

من مستشفى هيرمايرز كتب اورويل الى استور بعد ذلك بأيام اشعر بأني مريض حد الموت, قررت بكل الحمق ان لا اذهب الى الطبيب في بادئ الامر. اريد ان انجز الكتاب اولا.

في ذلك الوقت لم يكن هناك دواء للتدرن. وصف الاطباء لاورويل الهواء النقي والتغذية الملائمة, لكن عقارا جديدا كان قد ظهر تحت التجربة وقد تدبر استور الحصول على كمية منه لصديقه من الولايات المتحدة.

في اذار ,1948 بعد دورة علاج استمرت ثلاثة اشهر, اختفت اعراض التدرن, وكتب اورويل الى ناشره كل شيء انتهى الان واضح ان العقار قد ادى مهمته, انه مثل اغراق السفينة للتخلص من الفئران, لكن النتيجة تستحق العناء.

بينما يستعد اورويل لمغادرة المستشفى, جاءته رسالة من ناشره فريد واربرغ يقول له فيها من المهم بالنسبة لنجاحك الادبي ان تنجز الرواية الجديدة بحلول نهاية العام او قبل ذلك ان امكن.

كان ذلك مسمارا جديدا يدق في نعش اورويل الذي انكب على مراجعة مسودات الرواية بدلا من التفرغ للنقاهة والعناية بصحته. وعد اورويل ناشره بتسليم الرواية في مطلع كانون الاول وكتب الى صديقه استور لقد اصبحت معتادا على الكتابة في السرير رغم صعوبة التعامل مع الالة الطابعة في هذا الوضع. كانت المخطوطة تبدو له رديئة جدا كلما اعاد مراجعتها. بدأت الرواية تتشكل امام ناظريه بصورتها النهائية, ورغم انه كان من المؤمنين بان الافصاح عن مضمون الرواية قيد الانجاز يلحق بها الفأل السيىء, الا انه كتب لصديقه استور في تلك الفترة يخبره بأن الكتاب اللعين يتناول الوضع الذي يحتمل ان يكون عليه العالم اذا لم يحسم امره بالحرب الذرية لاحقا, كشف اورويل عن جانب من موضوع روايته لصديقه انتوني باول حين كتب له انه يوتوبيا معكوسة في شكل رواية.

جاء شهر تشرين الاول واورويل لم يختر بعد عنوان الكتاب, كان مترددا بين آخر رجل في اوروبا و 1984 وقد كتب لناشره يقول من الممكن ان افكر في شيء اخر خلال اسبوع او اسبوعين, لكن الناشر واربورغ هو الذي رجح كفة (1984) قائلا انه عنوان تجاري.

كان سباقا قاسيا مع الزمن كانت صحة اورويل تتردى مع الايام, وكان الموعد الذي حدده لتسليم المخطوطة يقترب بحلول منتصف تشرين الثاني. اصبح اورويل عاجزا عن السير, ولجأ الى السرير حيث كان يعيد طباعة النسخة النهائية من الرواية, بات يتعبني الجلوس لفترة طويلة ولا استطيع انجاز الكثير من الصفحات في اليوم.

في الثلاثين من تشرين الثاني كانت الرواية قد انجزت. ارسل اورويل النسخة التي طبعها الى لندن وغادر جورا الى مصح للتدرن في كوتسولدز, وكتب الى صديقه استور كان ينبغي ان آتي الى هنا قبل شهرين لكني اردت انجاز ذلك الكتاب اللعين.

ما ان استلم الناشر واربورغ النسخة حتى ادرك على التو اهميتها, قال لاحقا لزملائه انه واحد من اشد ما قرأت اثارة للرعب وفي مذكرة داخلية, كتب واربورغ للعاملين معه ينبغي ان تطلق علينا النار ان نحن لم نتمكن من بيع 15 الى 20 الف نسخة.

صدرت رواية 1984 في لندن يوم 8 حزيران 1949 وتبعتها في الصدور في الولايات المتحدة بعد ذلك بخمسة ايام. احدث صدورها ضجة عالمية, واعترف رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرتشل لاصدقائه بانه قرأها مرتين, في صحيفة الاوبزرفر التي يعمل فيها اورويل كان العمل يجري على الاحتفال بالمناسبة من خلال اصدار كتيب خاص عن اورويل, لكن اورويل قال لرئيس التحرير استور في مزيج من المزاح والتشاؤم اخشى ان تضطر الى تغيير المطبوع الى نعي.

لازم اورويل المستشفى, بعد ذلك كانت صحته تتدهور باستمرار, لكنه قاوم حتى نهاية العام, وفي اليوم الحادي والعشرين من كانون الثاني من العام الجديد اسلم جورج اورويل الروح بعد نزيف حاد داهمه في المستشفى وتوفي عن 46 عاما.



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات