تونس 2013.. نحو الجمهورية الثانية (تحليل)
المدينة نيوز - بعد رجّة الثورة والسقوط المثير لرأس النظام كانت سنة 2011 في تونس سنة الصراع بين ماض يريد أن يستمر ومشهد سياسي يريد أن يرى النور. وكانت انتخابات المجلس التأسيسي يوم 23 أكتوبر- تشرين الأول 2011 محطة مفصلية بين وضع انتقالي توافقي تحكم مفاصله آلة النظام القديم الادارية والسياسية ووضع انتقالي شرعي فوّضه الشعب خلال تلك الانتخابات تقوده قوى سياسية جديدة تعمل على صياغة الإطار القانوني والسياسي لتونس ما بعد الثورة.
كيف كان المسار الانتقالي إلى حدّ اليوم في تونس؟ وهل يمكن أن يعرقل الاستقطاب السياسي الذي تعيشه البلاد منذ الإعلان عن نتائج انتخابات 23 أكتوبر تركيز المؤسسات الدائمة للجمهورية الثانية؟
عامان من البحث عن الاستقرار
لئن شهدت سنة 2011 أحداث عنف وُجِّه الاتهام في أغلب حالاتها إلى فلول النظام القديم أو أحداث ارتبطت برغبة المنظومة التي صعدت لتولي شؤون التونسيين بعيد 14 يناير/كانون الثاني في وأد أيّ مطالب للتحوّل الجذري في البلاد مثل تشتيت اعتصام القصبة بالقوة، فإن سنة 2012 شهدت أحداث عنف ارتبطت بفاعلين متعددين ولغايات عديدة فنُسِبت أحداث للتيار السلفي وأخرى للجان حماية الثورة وأخرى كانت على هامش الإضرابات العامة الجهوية دعا لها الاتحاد العام التونسي أحداث آخرها ما وقع في مدينة سليانة شمال غرب البلاد .
وكانت البلاد قد انطلقت خلال السنة الماضية بمشهد سياسي ميزته الانقسام بين أحزاب الترويكا التي شكلت الحكومة التي تم تنصيبها يوم 14 ديسمبر كانون الأول 2011 وبين قوى سياسية ونقابية تسعى لتسفيه هذه الحكومة وإظهارها بمظهر العاجز عن تسيير شؤون البلاد إذ تمّ رفض كل العروض التي قدمتها الترويكا للوفاق السياسي ولم تهتم المركزية النقابية الأولى في البلاد بدعوة الرئيس محمد المنصف المرزوقي إلى هدنة اجتماعية مراعاة لظروف البلاد الصعبة.
ويجمع أغلب المتابعين أن الحصيلة الاجتماعية والاقتصادية للحكومة الحالية لم ترق إلى طموحات التونسيين أصحاب المصلحة في الثورة من الفئات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تضررت من النظام السابق خاصة في الجهات المحرومة التي انطلقت منها الثورة. كما أن الحكومة واجهت مطالب مجحفة من المعارضة السياسية بالاستقالة بدأت منذ اليوم الأول الذي تسلمت فيه السلطة ولا زالت مستمرة إلى اليوم وربما يكون الإضراب العام الذي دعا الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 13 ديسمبر كانون الأول 2012 أبرز تمظهر لإرادة قوى سياسية معينة تمترست بالنقابة الأولى في البلاد في محاولة إسقاط الحكومة التي تقودها حركة النهضة لكن دون جدوى ومثل تراجع الاتحاد العام التونسي للشغل عن الإضراب العام ليوم 13 ديسمبر ضربة قاسية لكل الذين راهنوا على انتفاضة ثانية تسقط الحكومة وفق التظيرات الماركسية الأرتودكسية لمفهوم الإضراب العام.
إلا أن "نجاح" الحكومة والأحزاب الداعمة لها في الاستمرار في السلطة لا يجب أن يحجب عديد العثرات التي شابت عمل الحكومة مثل فشل التعاطي مع الإعلام الذي تحوّل إلى اكبر "حزب معارض" لها والعجز عن تفكيك المنظومة القديمة على المستوى المحلي وحتى على المستوى المركزي، وكذلك الفشل التواصلي الكبير مع أوسع قطاعات الشعب فلم تظهر جهودها الكبيرة في تحسين مستوى العيش والانتقال بالاقتصاد من نسب نمو سلبية بلغت 2 % تحت الصفر إلى نسبة نمو تقدر بـ 5 ،3 %.
أما على المستوى السياسي وبناء المؤسسات الضرورية للانتقال الديمقراطي فيبدو أن نجاحات محدودة قد تحققت فمسودّة الدستور القادم للبلاد تم إعدادها وتتم مناقشتها الآن في الجهات ويقول المقرر العام للدستور المحامي الحبيب خذر إن الإعلان النهائي عن الدستور لن يتجاوز الربيع القادم.
من جهة أخرى تمت المصادقة في المجلس الوطني التأسيسي على قانون الهينة العليا للانتخابات التي ستنظم الانتخابات القادمة المرجح أن يتم انجازها في خريف 2013 رغم أن الترويكا قدمت تاريخ 23 حزيران- يونيو 2013 لانجازها وتعتبر هذه الانتخابات القادمة من جهة أهم محرك للصراعات السياسية الحالية وأبرز الرهانات المستقبلية أمام تونس من جهة أخرى لأنها ستكون الكفيلة بالانتقال بالبلاد من الوضع الانتقالي الشرعي إلى الوضع الشرعي الدائم.
لقد كانت كل معارك السنة الماضية مجرد تحضير لاستحقاقات سنة 2013 فالأحزاب المشاركة في الحكم تحاول الحفاظ على قواعدها الانتخابية من أجل تثبيت أقدامها أكثر في السلطة وأحزاب المعارضة خاضت كل المعارك للمس من الرصيد الانتخابي للترويكا بصفة عامة ولحركة النهضة أكبر أحزاب الترويكا بصفة خاصة.
ويبدو أن هذه الأحزاب تتجه إلى تحالف انتخابي ضد الترويكا وتقترب كل يوم من بقايا النظام القديم وحزبه الذي اجتمعوا، حسب عديد الملاحظين في حزب "نداء تونس" الذي يتزعمه رئيس الحكومة السابق الباجي قايد السبسي، وتحاول هذه الأحزاب ذات المرجعيات المختلفة من أقصى اليسار الماركسي إلى منتسبي حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل منع تمرير قانون تحصين الثورة الذي سيمنع من شارك في السلطة زمن الرئيس السابق بن علي من التقدم للانتخابات القادمة.
كما أن هذه التيارات تسعى بكل جهدها إلى الحيلولة دون محاسبة حقيقية للماضي لتورط أغلبها مع المنظومة القديمة وهو ما يفسر إصرارها على تحييد وزارات السيادة وخاصة وزارة الداخلية التي تحتوي خزائنها على أرشيف البوليس السياسي الذي تذهب عدة تقديرات أنه سيستعمل إضافة إلى ملفات ثقيلة للفساد في المعركة الحاسمة القادمة وهي معركة الانتخابات.
من جهتها تبدو حركة النهضة من خلال تصريحات مسؤوليها حريصة على إيجاد ائتلاف مع الأحزاب النظيفة والقريبة منها إيديولوجيا لخوض معركة الانتخابات القادمة رغم أن استطلاعات الرأي التي يهيمن النظام القديم على أغلب مؤسساتها تعطيها الأسبقية على بقية الأحزاب إلى حد الآن.
وفي هذا الجو المشحون سياسيا تتضاعف مخاطر العنف السياسي المرتبط بمجموعات تُحسب على التيار السلفي قريبة من تنظيم القاعدة أو تعمل لحساب أجندية استخبارية أجنبية حسب ما يذهب إلى ذلك بعض الملاحظين، فرغم إعلان تنظيم أنصار الشريعة أكبر تنظيم سلفي جهادي في تونس أن تونس ليس أرض جهاد بل هي أرض دعوة، ورغم أن قيادات في الجماعات المسلحة الجزائرية بثت خطابات تحذر من مخاطر استعمال السلاح في تونس فإن أحداثا كثيرة وقعت في تونس خلال السنة الماضية تؤكد هذه المخاطر والمخاوف.
فعدد ضحايا المواجهات بين قوات الأمن والجيش في تونس ومجموعات تحسب على التيار السلفي تجاوز إلى حد الآن عشرة أفراد آخرها سقوط امرأة في مواجهة مسلحة بين مطلوبين يحسبون على التيار السلفي وقوات مكافحة الإرهاب في حي دوار هيشر غرب العاصمة تونس. وتطرح اليوم أسئلة ملحة في تونس لمن يجمع السلفيون السلاح في البلاد؟ وهل فعلا هم سلفيون أم خليط من أتباع القاعدة ووكلاء المنظومة القديمة وأجهزة استخبارات دول تقلقها نتائج الربيع العربي وتحاول التأثير في المشهد بكل الوسائل؟
أما اقتصاديا فستحاول الحكومة التقدم في مشاريع تنموية لا سيما في الجهات الأكثر فقرا والتي شهدت خلال السنة الماضية عديد الإضرابات العامة المنادية بالتنمية.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن نسبة النمو ستكون في حدود 4،5 % أي أن الحكومة ستكون قد حققت في نهاية عهدتها المتوقعة خلال الخريف تطورا في نسبة النمو يقدر ب6،5 % فنسبة النمو التي تسلمتها الحكومة في أواخر سنة 2011 كانت في حدود 2 %سلبي. ولكن الحكومة ستكون عاجزة عن التقدم الجدي في هذه المشاريع دون إحداث التغييرات الضرورية على البنية الإدارية في الجهات التي لا يزال رموز المنظومة القديمة يتلاعبون بها ويضعون كل العراقيل لعدم حسم ملفات الفساد فيها خاصة أن الشبكة التي يقوم حزب نداء تونس بتأسيسها تعتمد غالبا على الرموز التجمعية القديمة والتي تحاول الانحراف بالمطالب التنموية عبر أعمال تشويش وفي بعض الأحيان تخريب للمؤسسات تتكلف كثيرا على ميزانية الدولة القصد منها إظهار عجز الفريق الحاكم عن تسيير شؤون البلاد.
لن يحدث أي انقلاب عميق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية خلال سنة 2013 طالما تمسكت أطراف سياسية ونقابية بالمطلبية المجحفة وعدم القبول بالتضحيات التي تتطلبها مراحل الانتقال الديمقراطي إثر الثورات الكبرى، وهو ما يتطلب من الحكومة رسم خطط دقيقة لمعالجة هذه الأوضاع.
ولئن فشلت محاولات إرباك الوضع السياسي الجديد المتمخض عن انتخابات 23 أكتوبر 2011 خلال السنة التي مضت فإن احتمالات عرقلة مسار الانتقال الى الوضع النهائي تبدو ضئيلة جدا اليوم ولكنها ليست منعدمة تماما.
وتتجه الأحداث في تونس إلى إرساء مؤسسات الجمهورية الثانية انطلاقا من الصياغة النهائية للدستور إلى انتخاب حكومة دائمة ورئيسا للبلاد لفترة 5 سنوات حسب ما نصّت عليه مسودة الدستور المطروح للنقاش اليوم ورغم أن مؤسسات سبر الآراء في تونس تقدم الباجي قايد السبسي كمرشح مفضل للرئاسة فإنها تقوم بمغالطة المستحوبين لأهداف غير خاقية فالرجل لن يكون معنيا بتلك الانتخابات بحكم تقدمه في السن 87 سنة، فالدستور القديم حدد سنّا قصوى للترشح للانتخابات 75 سنة وكذلك مسودة الدستور اليوم، ويستبعد أن يمدد في هذا الشرط وسينحصر التنافس بين مرشح للترويكا أو ائتلاف تقوده حركة النهضة ومرشح لمنافسيها يقع تحضيره في الكواليس.
وعندما يتمّ تجاوز هذه المرحلة ستكون تونس امام استحقاقات كبيرة لمحاسبة الماضي ووضع منوال تنموي جديد بعيدا عن ضغوطات الاستحقاقات الانتخابية؟ " الاناضول "