معادلة المفاوضات والمصالحة الفلسطينية
(كلما ازدادت الحركة الدبلوماسية التي تستهدف "تحريك" المفاوضات بين منظمة التحرير وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي تراجعت فرص تنفيذ اتفاق المصالحة الفلسطينية، وبالعكس)
بقلم نقولا ناصر*
تبدو الجهود العربية والدولية الجارية حاليا لتحريك محادثات تقود إلى استئناف المفاوضات بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين منظمة التحرير الفلسطينية كمن يضع العصي في عجلات المصالحة الفلسطينية التي اتفق على آلياتها التنفيذية باتفاق القاهرة الأخير.
وفي معادلة المفاوضات والمصالحة، يلفت النظر أنه كلما ازدادت الحركة الدبلوماسية التي تستهدف "تحريك" الاتصالات أو المحادثات المباشرة أم غير المباشرة بين دولة الاحتلال وبين منظمة التحرير من أجل "استئناف" المفاوضات المباشرة بينهما في نهاية المطاف تراجعت فرص تنفيذ اتفاق المصالحة الفلسطينية، وبالعكس، خصوصا طالما ظلت دولة الاحتلال تتذرع بالمصالحة كعقبة رئيسة تحول دون موافقتها على استئناف المفاوضات التي ظلت تتهرب من الوفاء باستحقاقتها طوال ستة عشر عاما قبل وقوع الانقسام عام 2007، وهو ما يعيد الجدل الوطني الفلسطيني إلى المربع الأول.
فعقم المفاوضات طوال عقدين من الزمن تقريبا كان من الأسباب الرئيسية للانقسام الوطني، وكان وصولها إلى طريق مسدود هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام التوافق الوطني على إنهاء هذا الانقسام، ويتضح اليوم أن الجهود الجارية حاليا لتحريك المفاوضات إنما تنعكس سلبا على انطلاق تنفيذ اتفاق المصالحة، ليتأكد مجددا أن منح الأولوية في المصالحة للانتخابات وتأليف حكومة وطنية جديدة قبل التوافق الوطني على المسائل الاستراتيجية لتفعيل منظمة التحرير كإطار للوحدة والشراكة الوطنية تمهيدا للاتفاق على البرنامج السياسي لمنظمة التحرير سوف يظل وضعا ل"العربة أمام الحصان" في المفاوضات والمصالحة على حد سواء.
لقد تأجل اجتماع الفصائل الفلسطينية الذي كان مقررا لتنفيذ المصالحة يوم الأربعاء الماضي إلى أجل غير مسمى، ولم يعد اجتماع الاطار القيادي المؤقت المقرر في الثامن من هذا الشهر بالقاهرة موعدا مؤكدا، ولا مواعيد اطلاق أعمال لجان المصالحة الخمس، وأعلن الناطق باسم حركة حماس سامي أبو زهري أنه "سيتم التواصل لتحديد موعد" لقاء القاهرة حول تأليف حكومة التوافق، ضمن مؤشرات أخرى إلى النتائج السلبية ل"هجوم دبلوماسي" يسعى حاليا إلى استئناف المفاوضات على جهود تنفيذ المصالحة الوطنية، وهي نتائج سلبية لا تكفي لتبديد أثرها الأجواء المتفائلة التي أحاطت بوصول رئيس لجنة الانتخابات المركزية، حنا ناصر، إلى غزة يوم الأربعاء الماضي، ف"تسجيل الناخبين" يظل مسالة فنية لا يغني الاتفاق عليها عن التوافق الوطني على الاستراتيجية الوطنية في المرحلة المقبلة كشرط مسبق لنجاح المصالحة الفلسطينية، ولإنهاء التناقض الراهن في معادلة المفاوضات والمصالحة.
ويبدو مفاوض منظمة التحرير العاطل عن العمل منذ تولى بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة في دولة الاحتلال قبل أربع سنوات محكوما عليه بتمديد بطالته لمدة أربع سنوات أخرى بعد أن تمخضت الانتخابات الأخيرة عن تفويض نتنياهو بولاية ثالثة.
لكن هذا المفاوض كما تشير كل الدلائل ما زال يراهن على نتائج ما يمكن وصفه الآن ب"هجوم دبلوماسي" كانت الاستعدادات تجري له لينطلق بعد إجراء الانتخابات العامة في الولايات المتحدة وفي دولة الاحتلال، مما حول انشغال المفاوض بالتوجه إلى الأمم المتحدة إلى "عمل مؤقت" أنجز خلاله اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، ليضع التوجه والانجاز معا في خدمة استراتيجية المفاوضات، بانتظار استئنافها، بدلا من البناء عليهما لبلورة توجه استراتيجي جديد تدعو إليه كل القوى الوطنية الفلسطينية.
وتوجد دلالة في هذا السياق لمبادرة "حسن النية" من منظمة التحرير بتأجيلها تقديم طلب الاعتراف بفلسطين دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، كما أعلن الرئيس محمود عباس.
وفي سياق "الهجوم الدبلوماسي" عاد في الأسبوع الماضي ممثل الولايات والأمم المتحدة والاتحادان الأوروبي والروسي في اللجنة الرباعية الدولية، توني بلير، لاستئناف مهامه، فاجتمع مع قيادة منظمة التحرير ومع نتنياهو، و"نجح" في ترتيب اجتماع يوم الأربعاء الماضي بين ممثلي وزارتي المالية للطرفين، وفي "إقناع" نتنياهو بالإفراج عن حصيلة شهر واحد فقط من أموال المقاصة والضرائب الفلسطينية التي تحتجزها حكومته منذ تشرين الثاني الماضي تسهيلا منه ل"الوضع المالي بالغ الصعوبة الذي تواجهه السلطة الفلسطينية"، لكن بلير فشل في انتزاع موافقته على "تعهد بمواصلة التحويلات في ما بعد"، كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن المتحدث باسمه مارك ريجيف، ليكون الفشل هو المحصلة العملية لهذه المهمة المفترض أن تكون بسيطة وثانوية.
لقد مضت أكثر من خمس سنوات على بلير في مهمته كممثل ل"الرباعية"، وكان فشله في مهمته هو العنوان الذي لا يختلف اثنان عليه، و"إذا حكمنا بالنتائج، فإنها تحت الصفر" كما قال المعلق الاسرائيلي عكيفا الدار لمراسل "التلغراف" البريطانية، بيتر أوبورن، في السادس عشر من الشهر الماضي. ووجه كثير من مفاوضي المنظمة انتقادات علنية لبلير وطالب بعضهم علنا باستبداله، لعدم جديته، وتواطؤه مع دولة الاحتلال، وانشغاله بزيادة ثروته الشخصية التي قدر أوبورن بأنه يزيدها بمعدل عشرين مليون دولار أميركي سنويا، وهو انشغال بالكاد يتيح له زيارة القدس مرة واحدة في الشهر لمدة يومين أو ثلاثة بالمقارنة مع سلفه جيمس وولفنسون الذي كان مقيما "دائما تقريبا" في المنطقة.
ويعكس فشل بلير فشل "الرباعية" وفشل مفاوض المنظمة في المراهنة عليهما، بحيث أصبح استبدال بلير معيارا لجدية الرباعية في جهودها، وأصبح قبول المنظمة باستمراره في مهمته إصرارا على تجربة المجرب يهدد بالتضحية بالمصالحة الوطنية لصالح المراهنة على استئناف مفاوضات محكوم عليها بالفشل.
وفي سياق "الهجوم الدبلوماسي" أيضا أعلن السفير الأميركي في دولة الاحتلال، دان شابيرو، يوم الجمعة قبل الماضي أن وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري سوف يزور المنطقة "قريبا"، خلال شباط / فبراير الجاري حسب تقارير إخبارية، ليلتقي عباس ونتنياهو "ليحاول بدء عملية السلام الاسرائيلية الفلسطينية من جديد"، لأن الانتخابات الأخيرة في دولة الاحتلال "فتحت آفاقا للسلام" كما قالت سلفه هيلاري كلينتون مؤخرا، ولأن "إحياء" هذه العملية ستكون في رأس أولوياته كما قال كيري نفسه.
ومن المتوقع أن تستقبل الرئاسة الفلسطينية كيري كممثل للرئيس الأميركي باراك أوباما في ولايته الثانية، متجاهلة عدم دعوة ممثلها في واشنطن معن رشيد عريقات لحفل التنصيب الرسمي لأوباما، يحدوها أمل غير واقعي في ان تتكيف الإدارة الأميركية الجديدة مع اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين.
لكن معيار التكيف الأميركي مع الاعتراف الأممي بدولة فلسطين الذي يؤهل الولايات المتحدة للاستمرار في القيام بدور الوسيط والراعي لأي عملية سلام مجدية بين "دولة فلسطين" وبين دولة الاحتلال هو إعلان أميركي صريح بسحب التعهدات التي التزم بها سلف أوباما، جورج بوش الابن، في رسالته التي بعثها إلى رئيس وزراء الاحتلال الأسبق آرييل شارون في الشهر الرابع من عام 2004، وهي تعهدات تجحف تماما بحدود أي دولة فلسطينية بحدود ما قبل الاحتلال الاسرائيلي عام 1967.
ومن دون سحب هذه التعهدات الأميركية فإن أي قبول فلسطيني باستمرار الوساطة والرعاية الأميركية سوف يعني فقط موافقة على الاجحاف بحدود الدولة المأمولة، وبما أن اي "تكيف" أميركي كهذا ليس متوقعا في أي مدى منظور فإن استئناف مفاوضات تتوسط فيها وترعاها الولايات المتحدة هي مفاوضات محكوم عليها بالفشل كذلك وليست جديرة بالتضحية بالمصالحة الوطنية من أجلها.
وضمن "الهجوم الدبلوماسي" أيضا زيارة سوف يقوم بها وفد يضم الأردن وبعض الدول العربية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا لواشنطن خلال الشهر الحالي أو المقبل ليقولوا للرئيس الأميركي: "السيد الرئيس، لقد حان الوقت للانخراط فعلا في العملية الاسرائيلية الفلسطينية" كما قال عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني على ذمة وكالة الصحافة الفرنسية.
لكن إذا لم تكن المطالبة بسحب هذه التعهدات الأميركية، وكذلك المطالبة باستبدال توني بلير كدليل على جدية أية مساع جديدة للجنة الرباعية الدولية، هما الهدف من الزيارة، فإنه لا جدوى منها، ولا من أي نجاح فيها، ولا من التضحية بالمصالحة الفلسطينية من آجل آمال كالسراب مبنية على نتائجها المتوقعة.
ولا تقتصر المساهمة الأوروبية في هذا "الهجوم الدبلوماسي" على هذه الزيارة المرتقبة، فقد التقى مبعوث الاتحاد الأوروبي أندريس رينيك الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي يوم الثلاثاء الماضي في القاهرة لتجنيد الجامعة من أجل "إطلاق مفاوضات سلام بناءة" خلال العام الحالي، بينما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند قد وعد في مؤتمر صحفي ب"مبادرة سلام تتوسط فرنسا فيها مباشرة بعد الانتخابات الاسرائيلية"، وسط أنباء راجت عن "مبادرة" مماثلة فرنسية بريطانية مشتركة نفى كبير مفاوضي منظمة التحرير صائب عريقات أي وجود مادي لها.
إن هذا "الهجوم الدبلوماسي" لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية "يشيع آمالا كاذبة بإحياء العملية السلمية التي ماتت وتعفنت ويبيع السلطة الفلسطينية في رام الله الوهم مجددا"، كما كتب رئيس تحرير القدس العربي عبد الباري عطوان يوم الجمعة الماضي معلقا على تصريح كلينتون بأن نتائج الانتخابات في دولة الاحتلال قد "فتحت آفاقا للسلام".
غير أن وهم المفاوضات قد انقشع تماما عن أعين المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال، فحسب استطلاع للرأي أجراه مركز القدس للاعلام والاتصال نشرت نتائجه في العشرين من كانون الأول / ديسمبر الماضي، سجل التأييد الفلسطيني للعمليات المسلحة ضد دولة الاحتلال أهم قفزة له خلال السنوات العشر المنصرمة، ليرتفع من (29.3%) أوائل عام 2011 إلى (50.9%) أواخر العام المنصرم، لأن الجمهور يقارن بين نتائج المفاوضات التي كانت حتى الآن "تأخذنا من سيء إلى أسوأ" وبين "نموذج (المقاومة في) غزة" الذي يبدو الجمهور "أكثر انجذابا" إليه، كما قال مدير المركز والمدير السابق للمركز الاعلامي للسطلة الفلسطينية برام الله، د. غسان الخطيب، الذي استقال من منصبه مؤخرا.
* كاتب عربي من فلسطين