"" غاندي فلسطين ""
قد يرى البعض ان اطلاق اسم "غاندي فلسطين" على الاسير البطل سامر العيساوي ابن القدس المحرر ثلاث مرات، فيه بعض المبالغة لجهة الفارق بين المهاتما غاندي الذي حرر بلاده، وبين العيساوي الذي حرر نفسه وبالكاد بقي حيا...
بل ان مجرد طول فترة الإضراب عن الطعام في السجن، حتى لو حطم رقما قياسيا، كما في حالة سامر الفلسطيني، ليس كافيا لعقد مقارنة بين هذا المناضل الشاب وبين من سمي يوما "بأبو الهند"...
لكن التدقيق في حالة سامر ومقارنتها بحالة غاندي يظهر بالمقابل أوجه شبه كثيرة بينهما...
فموهانداس كرمشاند غاندي الذي اطلق عليه اسم "المهاتما" اي "روح الهند" يشترك مع سامر العيساوي في ان المناضل الفلسطيني سامر العيساوي وكل زملائه الشهداء والاسرى يمثلون "روح فلسطين" بل انهم بقدر ما يقتربون من التضحية بأرواحهم من اجل حرية بلدهم، انما يطلقون في شعبهم وأمتهم روحا جديدا نستعين فيها لمواجهة حالات اليأس والإحباط والتفتت التي يحاول كثيرون زرعها في النفوس والعقول.
غاندي بنضاله المستمر ضد الاحتلال البريطاني والمتنقل من جنوب القارة الافريقية الى قلب القارة الهندية، انما جسد على الدوام وحدة الهند في وجه المستعمر، تماما كما وحدت وقفة سامر شعبه وأمته حول قضيته وسائر الاسرى والمعتقلين، رغم كل اجواء الانقسام والتشرذم المحيطة والمحبطة.
غاندي انتزع استقلال بلاده بعد نضال طويل شمل محطات عدة، بدءا من الاعتصام الى الاضراب عن الطعام، الى مسيرة ملح داندي قاد فيها غاندي إخوانه اكثر من 400 كلم إحتجاجا على فرض المستعمر البريطاني ضريبة على الملح، واليوم نرى سامر العيساوي وقبله رفاقه ورفيقاته في الحركة الاسيرة، سواء من استشهد منهم كاللواء ميسرة ابو حمدية وعرفات ابو جرادات، ومعهم اكثر من 200 مناضل قضوا في السجن، او من كسر منهم قرار الاعتقال الاداري كخضر عدنان وهناء الشلبي، وأيمن الشراونة وثائر حلاحلة ومحمد التاج وثائر جعفر وغيرهم، وهم يرسمون محطات جديدة لشعبهم على طريق الحرية والاستقلال، بل يثبتون كم هو هش هذا الكيان، وكم هو ممكن كسر ارادته اذا توافرت لدينا العزيمة والتصميم على المواجهة.
غاندي فتح للمقاومة ضد الاستعمار آفاقا جديدة، وهي آفاق المقاومة السلمية التي لن تلغ بالطبع الأوجه المتعددة للمقاومة، خصوصا المقاومة المسلحة، وها هم ابطالنا الاسرى في سجون الاحتلال يتكاملون في مقاومتهم السلمية، عبر الاعتصامات ومعارك الامعاء الخاوية مع المقاومة المسلحة، والانتفاضة الشعبية، وكل ما يبدعه الشعب الفلسطيني من أشكال النضال، كما نرى في مسيرات هدم الجدار في الضفة، او مبادرات كسر الحصار على غزة او وقفات اطفال كأحمد العربي، حيث ينكشف للعالم كله ارهاب العدو وعنصريته وجرائمه المتواصلة ضد الانسانية.
وحين اتخذ غاندي وإخوانه في حزب المؤتمر قرارهم بتحدي الجبروت البريطاني والعنصري في جنوب افريقيا، ثم في الهند خصوصا، لم يقيموا وزنا لسطوة تلك الامبراطورية التي "لا تغرب عنها الشمس" حينها، ومثله يفعل اليوم سامر العيساوي وغيره من ابطال المقاومة الاسيرة الذين صنعوا معادلة جديدة للقوى حيث الارادة تتفوق على السلاح، وحيث العزم يتغلب على ترسانات مكدّسة بالسلاح النووي وغير النووي.
غاندي ادخل في مواطنيه المهاجرين الهنود في جنوب افريقيا، ثم في مواطنيه المقيمين في بلادهم جرعات من الثقة بالنفس كانت تتعاظم مع كل معركة ينتشرون فيها، تماما كما يدخل العيساوي ومعه كل مقاوم فلسطيني او عربي الثقة بالنصر في قلب شعبه وأمته وفي عقلهما، مع كل معركة يخوضونها.
لا بل ان تمسك العيساوي بالعودة الى مسقط رأسه في العيساوية في القدس، ورفضه اي مقايضة او تسوية تقضي بإبعاده الى غزة او رام الله او الى الخارج، وبإجباره القاضية الاسرائيلية ان تأتي اليه في المستشفى بعد ان رفض المثول أمام محكمة الاحتلال، انما قدّم نموذجا عن معنى تمسك الفلسطيني بحقوقه، كما ببيته وبمدينته، فكيف اذا كانت هذه المدينة هي القدس، والبيت هو ركن في محلة مقدسية تشكل ساحة يومية للمجابهة بين سكانها الأصليين وبين الوافدين المستعمرين العنصريين الإرهابيين.
لقد وحّد البطل العيساوي قضية الاسرى مع قضية القدس باعتبارهما ابرز عناوين القضية الفلسطينية، بل اكد بإصراره على العودة الى بيته للتمسك بحق العودة، وهو جوهر تلك القضية..
كذلك أعاد العيساوي الاعتبار لاتفاقات تبادل الاسرى التي يخرقها دائما الكيان الصهيوني الغاصب غير الآبه لا بالجهة التي عقدها معها، ولا بالجهة التي تمت تحت رعايتها، حتى ولو كانت دولة بحجم مصر المدعوة حكومتها اليوم الى اجراءات حاسمة لحماية تعهداتها..
وقفة العيساوي البطولية لم تكن صدفة، او ردّ فعل عاطفي عفوي، وهو الداخل الى السجون والخارج منها، بل هي تأكيد على انه ابن فكر ملتزم، بل ابن التزام فكري عميق يثبت ان فلسطين تحتاج الى كل التيارات والتوجهات والأفكار والتنظيمات، بل أثبت سامر ان اليسار الفلسطيني، ممثلا بتنظيمه الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومنظمات مشابهة، هو رافد اساسي من روافد حركة النضال التاريخية لشعب فلسطين.