بالتحصين والتمكين والحاكمية نحمي مؤسسة الضمان الاجتماعي
عندما تم سنّ أول قانون ضمان اجتماعي أردني عام 1978، وبدء عمل مؤسسة الضمان الاجتماعي مطلع عام 1980، كان الهدف هو إيجاد مظلة تحمي عمال الأردن في حالات العجز وإصابات العمل والوفاة والشيخوخة، وهي ذات الفلسفة التي تقوم عليها نُظُم الضمان والتأمينات الاجتماعية في العالم، ما يعكس مفهوماً واسعاً للأمان والحماية التي توفرها هذه النظم، لتمثل في النهاية وسيلة حيوية لتحقيق اعتبارات الكفاية الاجتماعية للإنسان، إضافة إلى ما تلعبه من دور في تنمية إقتصادات الدول عبر دخولها في مكوّنات العملية التنموية من خلال التأثير في العديد من العناصر
المكوِّنة لهذه العملية والموجِّهة لها والمؤثِّرة فيها سواء أكانت بشرية أم مادية.
وفي إطار هذا الفهم لفلسفة الضمان الاجتماعي، يمكن القول بأن الضمان عبارة عن نظام اجتماعي اقتصادي تكافلي إلزامي تساهم في تمويله الفئات القادرة في المجتمع وتستفيد من منافعه الفئات الضعيفة. والفئات القوية أو القادرة هي أطراف الانتاج المساهمة في التمويل من أصحاب عمل وحكومات مع إسهام أقل من العمال، ولذا يتصف نظام الضمان الاجتماعي بأنه ذاتي التمويل، بمعنى أن تمويل برامجه يعتمد على الاشتراكات التي يؤديها أصحاب العمل والعمال عن أجور المشتغلين، وهو الأسلوب السائد في غالبية الدول.
من هذا المنطلق، فإن مؤسسات الضمان الاجتماعي عبر العالم تتمتع باستقلالية كاملة في إدارة شؤونها سواء التأمينية منها أو الاستثمارية، على اعتبار أن أموالها ليست أموالاً عامة لخزينة الدولة، وإنما هي أموال العمال والمشتركين في هذا النظام، ومن هنا فإن مؤسسة الضمان الاجتماعي لدينا، شأنها شأن مؤسسات وهيئات الضمان والتأمينات الاجتماعية في العالم، لا تستطيع أن تعمل بكفاءة وحصانة إلاّ في إطار الاستقلالية المالية والإدارية، وإن أي انتقاص من استقلاليتها، وهي استقلالية مسؤولة وضمن حدود الولاية العامة للحكومات، لأنها تُدار من خلال
الشركاء الاجتماعيين الثلاثة: ممثلي العمال، وممثلي أصحاب العمل، وممثلي الحكومة، ولها أنظمتها ولوائحها الخاصة، وهي ليست مؤسسات حكومية بالمعنى الرسمي، وإنْ كانت ذات نفع عام، وفي ذلك صدرت قرارات لمحكمة التمييز، ورأي لديوان التشريع والرأي بشأن استقلالية مؤسسة الضمان الاجتماعي وعدم تبعيتها للمؤسسات الحكومية، أو الدوائر الرسمية، لكن الحكومات الأردنية المتعاقبة لم تلتفت لهذه القرارات ولم تلق لها بالاً، كما أن لهذه المؤسسة موازنتها المستقلة تماماً عن موازنة الحكومة، ولا تدخل أموالها في الخزينة العامة للدولة ولا يجوز أن تختلط
بها.. لأنها أموال الناس والعمال، تُردّ إليهم على شكل رواتب تقاعدية ورواتب عجز ووفاة ونفقات تأمينية وعلاجات إصابات عمل وتعويضات وبدلات إجازة أمومة وتعطل وغيرها، كما أن قانونها "قانون الضمان الاجتماعي" نص على إعطاء الصلاحية لمجلس إدارتها الثلاثي التمثيل لوضع هيكلها التنظيمي ووصف الوظائف والمسؤوليات فيها، إضافة إلى اقتراح الأنظمة المالية والإدارية والفنية التي تحكم عملها وتنظم مهامها ووظائفها، وإن الانتقاص من استقلاليتها سوف يشوّه ما جرى عليه العرف والتشريع عربياً ودولياً في إدارة مثل هذه المؤسسات، ويُضعف دورها في المجتمع،
وهو دور يتعاظم يوماً عن يوم، لتحمل عبئاً كبيراً في توفير الحماية لشرائح واسعة جداً من أبناء الوطن وعمّاله..!!
إن إصرار الحكومات على التدخل في شؤون هذه المؤسسة من خلال إدخالها ضمن منظومة المؤسسات التابعة للخدمة المدنية، يُشكّل اعتداءً صارخاً على قدسية استقلالية هذه المؤسسة، ويؤدي إلى إعاقة عملها، وإضعاف كفاءتها في خدمة الوطن وعمال الوطن والاقتصاد الوطني والتقليل من دورها في توفير الحماية الاجتماعية بشكل كبير جداً، وهو أمر قد يدفع ثمنه المجتمع بأسره مستقبلاً، ولا نريد أن يأتي ذلك الوقت الذي تندم فيه الحكومات على تدخلها في عمل هذه المؤسسة بالصورة التي تنتقص من دورها ومسؤولياتها وإدارتها لأموال العمال، ولن يفيد الندم حينذاك، فالعدالة
لا تتحقق إلا من خلال التشريعات، ولا يمكن بحال أن نحقق العدالة إذا كنا نخالف التشريعات، ومن ذلك أن نظام الخدمة المدنية الجديد يتعارض في بعض أحكامه مع نصوص قانونية لبعض المؤسسات، كما تتعارض بعض نصوصه مع نصوص دستورية، وهناك آراء قانونية لرجال قانون معتبرين تؤيد هذا الاتجاه، ومع ذلك أصرت الحكومات السابقة على المضي بمشروعها، ولم يصدر عنها أي توضيح لوجهة النظر القانونية المفنّدة للآراء القانونية التي طُرحت حول عدم جواز سريان نظام الخدمة المدنية على مؤسسة الضمان الاجتماعي لأسباب دستورية وقانونية وموضوعية وعُرفية، فكيف يمكن أن
تتحقق العدالة عبر مخالفة التشريعات والعرف الدولي، وتغيير منحى مؤسسة عريقة مثل مؤسسة الضمان التي لم تحمّل الخزينة العامة للدولة أية كلف مالية منذ إنشائها، في الوقت الذي نرى فيه دولاً تساهم ماليتها العامة في تأمين النفقات التشغيلية لمؤسسات الضمان الاجتماعي لديها وتقوم بدعم صناديق هذه المؤسسات بجزء من عوائد الضرائب لتمكينها من القيام بدورها في حماية المواطنين وتعزيز التأمينات والمزايا والرواتب التقاعدية لأبناء المجتمع وضمان مستقبلهم على أكمل وجه..!!؟
إن هذا الدور الذي تقوم به مؤسسة الضمان في الأردن بدأ يضعف تدريجياً بعد شمولها بنظام الخدمة المدنية لأن ذلك أدّى إلى الانتقاص من استقلاليتها المالية والإدارية، وكنا ننتظر أن تُفرّق الحكومة عند بدء تنفيذها لمشروع هيكلة القطاع العام بين مؤسسات كانت وليدة اجتهادات خاطئة تماماً، وبدأت الحكومات تعترف بذلك، فشرعت تفكّر بلملمتها دمجاً وإلغاءً بعد أن استشرت في الدولة كالخلايا السرطانية، واستنزفت من الخزينة العامة مليارات الدنانير، دون أن يتوازى ذلك مع الخدمة التي تُقدمها أو القيمة المضافة التي تؤديها للوطن واقتصاده، وبين مؤسسات
عريقة أُنشئت لأغراض عظيمة وخدمات جُلّى، وحملت عن الدولة ولا تزال عبئاً كبيراً، كان من الصعب على الحكومات تحمّله، ومنها مؤسسة الضمان الاجتماعي التي أضحت مظلة لكافة عمال الأردن في القطاعين العام والخاص، حتى وصلت نسبة المنضوين تحت مظلتها إلى (66%) من إجمالي المشتغلين في المملكة، وبحجم نظام تأميني يصل إلى أكثر من مليون وربع المليون شخص ما بين مشترك فعال ومتقاعد ووريث مستحق، وبمحفظة استثمارية تناهز الستة مليارات دينار، فهكذا مؤسسة شأنها شأن مؤسسات وهيئات الضمان والتأمينات الاجتماعية في العالم، يجب أن تحظى بالاستقلالية والحصانة
الكاملة المسؤولة، والحاكمية الرشيدة لتمكينها من أداء رسالتها بكفاءة وتميّز، وبخاصة دورها الرئيس في الحفاظ على أموال الناس والعمال وتنميتها وردّها إليهم على شكل رواتب تقاعدية ورواتب عجز ووفاة ونفقات تأمينية وعلاجات إصابات عمل وتعويضات وبدلات إجازة أمومة وتعطّل وغيرها. وإن الانتقاص من استقلاليتها ومصادرة أنظمتها، كما حصل، شوّه ما جرى عليه العرف والتشريع عربياً ودولياً في إدارة مثل هذه المؤسسات، وسوف يُضعف دورها في المجتمع مستقبلاً، في حين أن المطلوب هو تقوية دورها وتعزيزه بصورة كبيرة خصوصاً وأن الأردن سوف يشهد ذروة فرصته
السكانية بحلول عام 2030 حيث ستبلغ نسبة السكان في سن العمل (من 15 – 64 عاماً) ما يقرب من 69% من سكان المملكة وفقاً لدراسات المجلس الأعلى للسكان، وهو ما يفتح الباب أمام دخول أفواج كبيرة إلى سوق العمل، حيث سيكون الاقتصاد بدءاً من ذلك العام بحاجة إلى توليد (130) ألف فرصة عمل سنوياً، وسيكون هؤلاء بحاجة إلى غطاء تأميني ومظلة حماية اجتماعية لحمايتهم من المخاطر، وهو الدور الذي تقوم به حالياً مؤسسة الضمان الاجتماعي، وعليها أن تضطلع به مستقبلاً أيضاً وبكفاءة أعلى..!!
أقول هذا الكلام متزامناً مع مناقشة اللجنة النيابية المشتركة للعمل والمالية لفصل التنظيم الاداري لمؤسسة الضمان الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب مراعاة جانب الاستقلالية والحوكمة الرشيدة وتحصين المؤسسة من أي تدخلات رسمية غير مسؤولة قد تزّج بها إلى مناطق معتمة مستقبلاً سواء ما يتعلق بالمحفظة الاستثمارية لأموال الضمان، أو إدخال المؤسسة في دهاليز العمل الحكومي البيروقراطي القاتل، وكنّا حذّرنا من كل ذلك في أوقات سابقة، لكن أحداً لم يسمع، وها هي الفأس في منطقة غير قاتلة في الرأس الآن، وعلى ممثلي الشعب سحبها فوراً وإنقاذ مؤسسة الضمان
الاجتماعي قبل فوات الأوان، خصوصاً وأن التعديلات على بنود قانون الضمان المؤقت التي تَوَافَقَ عليها أعضاء اللجنة النيابية بالشراكة مع المؤسسة وممثلي العمال وأصحاب العمل هي تعديلات مريحة ومدروسة وتصب في تعزيز حماية الطبقة العاملة وتوفير الحياة الكريمة للأردنيين، ما يبشّر بصدور قانون ضمان اجتماعي دائم توافقي يريح المجتمع والناس ومؤسسة الضمان..