استجلاء الاوضاع والمظاهرات والاحتجاجات في تركيا
ظلت تركيا ترزح تحت نظام حكم الحزب الواحد ردحا من الزمن ، وهو حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال اتاتورك ، المعروف بمصطفى الدونمة (والدونمة تعني العودة والرجوع في اللغة التركية) حيث كان هذا ينتمي إلى الجماعة المغتربة من اليهود المتأسلمين ، والذين التجأوا إلى حاضرة الخلافة لحمايتهم بعد طردهم من الاندلس ، وكانوا اظهروا الاسلام وأبطنوا اليهودية ، وقد اسهموا في تقويض الدولة العثمانية والغاء نظام الخلافة، فقويت شوكتهم واستلموا زمام الامور؛ لبراعتهم في الاقتصاد والثقافة والاعلام - وسائل السيطرة على المجتمعات - ثم عملوا على علمنة الدولة وتطرفها واقلمتها وعسكرتها فيما بعد ، وحولوها إلى دولة شوفينينة في تعصبها التركي، تابعة لاوروبا ، ولم تتقدم احوال تركيا في ظل العلمنة والتطرف والعسكرة؛ بل تدهورت سياسيا واقتصاديا ، ثم تعاقبت الانقلابات العسكرية ،وتراجعت مكانة الدولة التي حكمها وسيطر عليها العسكر حتى اواخر القرن الماضي.
لكن شعب تركيا ظل يتقلب ويبحث عن هويته الحقيقية إلى أن اقترب للتصالح مع ذاته وهويته تدريجيا ، فاحس بالامن والامان، حيث نجح حزب العدالة والتنمية الاسلامي الذي استند إلى تاريخ عريق من العمل الحزبي الاسلامي المحافظ ، حيث قام بتطوير خطابه ومراعاة الظروف المحيطة،لأنه لم ينعم ولم يهنأ او يرتاح من عملية استيراد الديمقراطية بالمفهوم الغربي ، لانها تقوم على مبادئ تتصادم مع هويته الاسلامية، ولكن لما استطاعت تركيا المزاوجة بين هويتها الاسلامية الحقيقية والديموقراطية حصلت على الاستقرار والتقدم؛ حيث اكتشفت ذاتها بماضيها التاريخي والمعاصر دون تناقض، واكتشفت ذاتها بمقدرتها الاقتصادية والسياسية بترابط دون تباغض ، وبمميزاتها الحضارية الحوارية دون تصادم.
لقد حقق حزب العدالة والتنمية اصلاحات ونجاحات فائقة في مختلف المجالات، وعلى كافة الاصعدة الاقتصادية والصحية والتعليمية والعسكرية والعمرانية وحقوق العمال والاسرة والمرأة، وهو الحزب الذي انطلق بالامة التركية من هويتها الاسلامية ؛وذلك بسب من اكتشاف الذات التركية بقناعاتها الفلسفية والدينية معا دون تعارض؛ اذ بعد الاصلاح الاقتصادي الباهر الذي حققته تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، اتجه اردوغان واعوانه المخلصون نحو اصلاح المجتمع والانسان ، ومحاربة الفساد والمفسدين اينما كانوا ، اذ اعلنوا الحرب على كل الفساد الاجتماعي والاخلاقي الذي خلفته حقبة اتاتورك واعوانه العلمانيون، وكان هذا ما اثار حفيظة الزمرة العلمانية وتابعيهم من المعارضين ، لقد اراد اردوغان وحزبه ان يجعل من تركيا قوة اقليمية بدلا من ان تكون تابعة وملحقة بالاتحاد الاوروبي ؛ حيث تنبهت القيادة الحكيمة إلى توطيد علاقاتها الاسلامية مع نفسها وشعبها اولا ، ثم مع الشعوب التي تتقاسمها التاريخ والدين والهوية، وتجمعها بهم الثقافة والاهداف والرؤى، بعد ان ظلت تركيا منزوية عنها ومغلقة ابوابها ، الا مع على الغرب وترهاته .
لم يعجب العلمانيون واتباعهم بذلك التوجه لحكومة اردوغان ، فاخذوا يدقون اسافين الانقسامات الاجتماعية والسياسية والطائفية التي بدات تتجذر وتعمق اللغة الطائفية بين حكومة حزب العدالة والتنمية والمعارضة بزعامة حزب الشعب الجمهوري العلماني الاتاتوركي ، فاردوغان ومعاونوه لم يتوانوا في وصف زعيم الحزب المعارض كمال كليجدار اوغلو بالطائفي العلوي، بينما يصف الاخير اردوغان ب(باديشاه) او السلطان العثماني الجديد المتطلع للباب العالي، ووصفه بالكاذب والعميل الصغير للامبريالية والصهيونية، وهكذا بدأ المجتمع التركي ينقسم إلى طوائف وشيعا كردية وعلوية ، وهو ما يشمل المنطقة الجنوبية من لواء الاسكندرون مرورا بالمنطقة الجنوبية الشرقية وصولا إلى البحر الاسود، بحكم التركيبة الاجتماعية والقومية الطائفية، مقابل منطقة الشمال والغرب السنية، فبدأت الخندقة الطائفية السياسية تعمل عملها، وهو ما اذكي الصراع ، فباتت مجمل القوى السياسية اليسارية والديموقراطية والعلمانية والكردية منزعجة من سياسة اردوغان وحزبه، وترى ان اردوغان يريد توريط تركيا بربطها بعجلة الرجعية والتأخر مع العالم العربي والاسلامي انطلاقا من سياسته العثمانية ،وانفتاحه على العالم العربي والاسلامي ،واصلاحاته المجتمعية والاخلاقية ، وبخاصة ما اقدم عليه واقره البرلمان التركي اخيرا ، وما اصدرته حكومة اردوغان من قوانين تحد من بيع الخمور في تركيا الا بتنظيم قانوني ،حيث يحظر على شركات بيع الكحول ان ترعى اي نشاطات عامة ، كما لا تستطيع وفق القانون الجديد اماكن بيع الخمور عرض خمورها علنا ، كما يمنع التشريع الجديد المسلسلات التلفزيونية والافلام والفيديو كليب من ان تتضمن صورا تشجع على تعاطي الكحول واستهلاكها ،وقد وضع القانون قيودا على عملية بيع الخمور من الساعة العاشرة ليلا حتى السادسة صباحا، وفرض القانون كذلك عقوبات اكثر تشددا على القيادة تحت تأثير الكحول والمشروبات الروحية ، كما ان اردوغان كان طرح اعادة التفكير بارجاع عقوبة الاعدام بعد مرور عقد من الزمان على الغائها في اطار اصلاحات طلبها الاتحاد الاوروبي لتسهيل حصول تركيا على عضويته انذاك، وقد صرح بذلك اردوغان حديثا امام حشد ، بانه لا بد من مواجهة حالات القتل والاغتيال والجريمة باعادة عقوبة الاعدام، اذا اقتضى الامر، حيث ابدت استطلاعات الرأي العام تأييدا قويا لذلك الطرح ، واشار اردوغان ان الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان كدول تنفذ عقوبة الاعدام.
لقد اثار ذلك كله نزعة حقد المعارضين والعلمانيين واتباعهم، فلم تعجبهم هذه الاصلاحات لانها تمس اعمالهم وتكشف خباباهم ودسائسهم ؛ مما دفعهم لحشد اتباعهم ومؤيديهم للخروج في مظاهرات حاشدة ضد سياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم ، هذه السياسة التي اتهموها بانها تتجه نحو الشريعة الاسلامية والحد من او تقليص الهوية العلمانية للدولة التركية، وكانوا رفضوا من قبل ظاهرة الحجاب الذي يعتبرونه تخلفا ورجوعا إلى الوراء . لذلك شنت وسائل الاعلام التركية التي يملك غالبيتها العلمانيون واتباعهم سلسلة من التحريضات والهجمات العنيفة ضد حكومة اردوغان، بعضها بسبب قانون الخمور الجديد والبعض الآخر بسبب انتشار ظاهرة الحجاب وغيرها... مما يرون انها اعمالا تقود إلى التخلف والرجعية ، ان هذه التظاهرات والاحتجاجات الحاشدة والعنيفة وغير المسبوقة التي يحمل فيها المتظاهرون زجاجات الخمر والبيرا لم يكن سببها الحقيقي قطع الاشجار في حديقة ميدان (تقسيم) وبناء مركز ثقافي وتجاري مكانها، ولا بسبب البيئة ، وانما ظاهرها كان ذلك، وباطنها هو ما اقره البرلمان التركي واصدرته الحكومة من قوانين هدفها حماية الاخلاق والانسان التركي ، ثم ان هذا الميدان الذي جعلوه شرارة انطلاق المظاهرات والاحتجاجات ضد حكومة اردوغان هو الاسوأ سمعة في تركيا ، فهو الميدان المعروف لدى كل الاتراك المليء بأماكن الخمور والفجور المتنوعة.