أجسادٌ تحترق وأكبادٌ تتفتت
محمد البوعزيزي في كل عواصمنا العربية، يتنقل في كل البلدات والمدن، ويظهر في كل التجمعات والقرى، فلا مكان يميزه أو يفضله، ولا وسط أو تجمع يغيب عنه أو يفتقده، فهو يوجد في كل مكانٍ نعرفه أو لا نعرفه، ولا تخلو منه منطقة قريبة أو بعيدة، فأرضنا العربية ثريةٌ بأمثاله، وغنيةٌ بأشباهه، الذين يزيدون ولا ينقصون، وتتفاقم أحوالهم سوءاً ولا تتحسن، إنهم من فئة الفقراء المعدمين، المهمشين المعذبين، الجائعين والمشردين، العاطلين والمحرومين، المرضى والبائسين، إنهم غالبية الشعب وعموم الأمة، سواد الأوطان وسكان البلاد.
لا يوجد دولة عربية إلا وسقط فيها محروقاً بوعزيزيٌ عربي، بائساً وحيداً، حسيراً حزيناً، عيونه حائرة، وأسماله بسيطة، وجسمه ناحلاً ضعيفاً، يجر قدميه ولا تجرانه، ويحاول الوقوف على رجليه فلا يستطيع، يبدو الجوع على جسمه الذي برزت منه العظام، فظهر قفصه الصدري مرسوماً يشفُ من تحت الجلد، وبانت عظام ساعده وعضده وساقه النحيلة، وقد خفت صوته، وبحت حنجرته فسكت، لم يرحمه فقره، ولم ينقذه مجتمعه، ولم يخف إلى مساعدته الحكام ولا المسؤولون، فسلك طريقه إلى الموت ثائراً، وخطا نحو العدم غاضباً، وسخر جسده الضعيف ليشعل به ثورة، أو يوقظ به أمة، أو ينبه به أهله، إذ لا وسيلة عنده غير جسده، وإن كان لا يملك حق التصرف فيه بيأس، فهو لا يملكه وحده، وإنما يشاركه به أهله، زوجه وولده، وأبوه وأمه، ومجتمعه وأهله، ومن قبل فإن الله قد سلمه جسده أمانةً، فلا يفنيه في حرام، ولا ينهيه بقتلٍ أو انتحار، ولكنه اليأس القاتل، والفقر الكافر.
لم يعد البوعزيزي الفقير المعدم المسكين، الباحث عن كسرة خبز، والساعي لعملٍ يقتات منه، ويطعم به أهله وصغاره، ليكون فاعلاً في مجتمعه، وخادماً لأهله، تونسي الجنسية، إنه عربي الهوية، مواطنٌ بدون درجة، وإنسانٌ بلا كرامة، ومخلوقٌ بلا حقوق، وكائنٌ بلا مأوى، إنه اليوم مصريٌ وأردني، وتونسيٌ وجزائري، وفلسطيني ولبناني، ومغربي وليبي، إنهم مواطنون عرب، جمعهم الفقر والجوع والعوز والحرمان والحاجة، فانسجموا في إطارٍ مشترك، وانظموا إلى فرقةٍ واحدة، إنهم ينتسبون اليوم إلى نقابة المحروقين المقتولين، وإلى تجمع اليائسين المنتحرين، المحبطين من أي أمل، المستبعدين من أي برنامج، والمهمشين من أي مشروع.
إنها ظاهرةٌ خطيرةٌ ينبغي علاجها، ويجب التصدي لها، ولا بد من حلها حلاً جذرياً، يطال أسبابها، ويصل إلى عمق أصولها، فلا التفاف عليها، ولا محاولة لتخديرها أو تسكين الألم المتفجر منها، وعلاجها ليس فردياً، ولا هو محاولة للتظاهر بحلها، إذ أن ملامسة المشكلة بسطحية، والتعامل معها بفوقية يجعل منها كالجمرة المتقدة تحت الرماد، فأي محاولة عفوية لإطفائها أو إخمادها، فإنها ستعود وستتقد من جديد، وستشتعل أكثر إن لم يكن إطفاؤها وفق الأصول.
وهي ظاهرة تكبر يوماً بعد آخر، ويتعاظم خطرها أكثر، وتنتقل من مكانٍ إلى آخر كالنار التي تدب في الهشيم، فتشتعل بسرعة، وتترك وراءها رماداً أسوداً يمتد على مدى الأرض، إنها مصيبة من نوعٍ جديد، يزداد ضحاياها من المحروقين وذويهم، إذ ليست الخسارة هي فيمن قرر الموت احتراقاً وحسب، وإنما المشكلة تتعاظم لدى من كان يعيلهم، أو يسعى للعمل من أجلهم، فإنهم في غيابه سيحتاجون أكثر، وسيجوعون أكثر، وسيعانون أكثر، وسيضطرون لتقديم تنازلاتٍ مؤذية، والخضوع إلى ابتزازاتٍ مقيتة، وتنفيذ مهامٍ قذرة، والقيام بأعمالٍ غير مشروعة، والانشغال فيما يضر ولا ينفع، بحثاً عن مالٍ يعينهم على الحياة، ليستر عوراتهم، ويلبي حاجاتهم، وينتشلهم مما هم فيه من عوزٍ وفقر.
علماً أن الذين يلجأون إلى خيارت الموت والانتحار، ليسوا من الأميين أو المهنيين والحرفيين، ممن لم ينالوا قسطاً من العلم، أو حظاً من الثقافة، إنما منهم أساتذة وخريجون، ومتعلمون ودارسون، وطلابٌ كانوا متميزين ومتفوقين، وغيرهم من الوافدين والعائدين.
من المسؤول عن هذه الجريمة الإنسانية الاجتماعية الآخذة في التطور والكبر، أهو اليائس المنتحر، أم الظروف والمجتمع، أم أنه الحاكم والمسؤول، لعلهم جميعاً يشتركون في هذه المسؤولية، ويتحملون العبء فيها، ولكن الحكومة وأولي الأمر، الذين يمسكون بمقاليد الحكم، ويتحكمون بالسلطة والقرار، يتحملون المسؤولية الأكبر، وعليهم يقع العبء الأساس، فهم المسؤولين عن استدرار رؤوس الأموال، وتشجيع الاستثمارات، وخلق فرص عملٍ جديدة، وفتح مشاريع وبناء معامل ومصانع وورش عمل، تتسع للعاطلين وللخريجين الجدد، وتتيح الفرصة لمن يرغب في العمل أن يجد لدى الحكومة ضالته، وعندها حاجته، لنفسه وأطفاله، وليومه وغده.
وكما تتمكن الحكومة من انتشال المواطن الضعيف، وتحول دون انتحاره واحتراقه، وتحمي أكباد الأمهات وقلوب الأطفال من التفتت حزناً على آبائهم، وألماً لفراقهم، فإنها تستطيع بعد ذلك أن تجني من ثمار جهدهم، وأن ينالها الكثير من أعمالهم، وأن تنتفع من مشاريعهم، إذ تزدهر البلاد، ويعم الخير ويكثر المال، وتقل الحاجة، وتغيب المسألة، وتتمكن الحكومة من تحصيل الضرائب والرسوم، لتشغل بها آخرين، وتبني بها مشاريع جديدة، لتخلق من خلالها فرصاً أخرى للعمل، وإلا فإن عليها أن تتهيأ لآخرين جدد، يحترقون ويشعلون بأجسادهم ثوراتٍ جديدة، تقضي عليهم وتسقط حكمهم، وتنهي أحلامهم في البقاء أو رغبتهم في الخلود على كراسي الحكم.
كما على الحكومة أن تكون إنسانية، وأن تتعامل برحمةٍ وشفقة، وألا تستخدم سلطتها وعصاها الغليظة في تطبيق قوانين جائرة، وأحكامَ باطلة، وألا تكون قاسية تجاه من لا يملك من الدنيا شيئاً، وألا ترهق المواطنين بضرائب أو رسوم، أو تمنعهم من ممارسة أعمالٍ ومهنٍ، في ظل انتشار البطالة، بحجة مخالفة القوانين، وعليها ألا تسلم أمر تنفيذ القانون إلى صغار سفهاء، يفسدون ولا يصلحون، ويخربون ولا يعمرون، وإلا فإنها ستكون المسؤولة عما سيقع، وعليها أن تتوقع ما قد يجري ويحدث، وأن تقبل إن سقطت ورحلت ما قد يردده الناس "على نفسها جنت براقش".