صدقية النائب العام ونزاهة القضاء
أهي خدعةٌ تحاول السلطاتُ الرسمية أن تمررها على الشعوب المسكينة، عندما تدعي نزاهة واستقلال القضاء، وعدلية النائب العام، وصدقية القضاة ورجال القانون، وتصفهم جميعاً بالحيادية والعدلية والنزاهة، وأنهم يعدلون ولا يظلمون، وأنهم يساوون ولا يميزون، وأنهم لا يرتشون ولا يرهنون ضمائرهم، ولا يحكمون لصالح غيرهم، وأنهم ينظمون القضاء، ويلتزمون بالمواعيد، فلا يؤخرون ولا يماطلون، ولا يؤجلون ولا يساومون، ولا يركنون الملفات، ولا ينسون القضايا.
هل تظن السلطاتُ الحاكمة أنها تنجح في خداع مواطنيها، عندما تدعي بأن منصة القضاء العالية هي الملجأ الآمن لكل مواطن، وأنها الإطار الحامي لكل الناس، وأنها مبرأة برجالها من العيوب والمثالب، وأنها طاهرة من الغش والكذب، ومن الخداع والتضليل، ومن الزور والتدليس، وأنه تحت قوس محاكمها لا يضام أحدٌ، ولا يحابى مسؤول، ولا تطوى ملفات، ولا تطمس حقائق، ولا تختفي أدلة، ولا تضيع إثباتاتٌ وقرائن، ولا تضعف براهينٌ وظنون، كما لا تخلق دلائلُ إدانةٍ باطلة، ولا تظهر قرائنٌ مزورة، ولا يستحضر شهودٌ يحفظون شهاداتهم، ويتلقنون أقوالهم، ويشهدون بالزور ببجاحةٍ وبلا خوف.
هل تعتقد السلطات الحاكمة أن هذه الأكاذيب والشعارات، وهذه الدعايات وبهارج الزينة وألوان الزخرف، تنطلي على المواطنين، وأنها تمر عليهم بسهولةٍ وبساطة، فيصدقونها ويؤمنون بها، ويركنون إليها ويعتمدون عليها، لإعتقادهم أن المواطنين بسطاء مفغلين، لا يدققون ولا يلاحظون، ولا يسألون ولا يشكون، ولا يظنون أن القضاء مسيسٌ وموظف، أو أنه لا يخضع للأسواق، فلا يباع ولا يشترى، ولا ترتفع أسعاره وتنخفض وفق بورصة القضايا ومستوى المتهمين، ودرجة المتابعين والمتورطين.
المواطنون ليسوا بلهاء، وليسو دهماء جهلاء، فهم يدركون أنه لا قضاء نزيه، ولا حكم رشيد، ولا عدليةً في القوانين، ولا صدقيةً في النائب العام ولا في رجال القانون، فالقضاة يعينهم الحاكم أو سلطاته وحاشيته الحاكمة، وأنهم يخضعون في أحكامهم لرغبات الحاكم وتوجهات السلطة، فتكون أحكامهم جائرة وقاسية ضد المعارضين والمناوئين، وبالغةً جداً ضد المخالفين والمعترضين، في الوقت الذي يسكتون فيه عن جرائم الموالين، ومخالفات المسؤولين، ويغمضون عيونهم عن تجاوزات أبناء المسؤولين ونسائهم، فلا قانون يشلمهم، ولا عقوبة تردعهم، ولا قضاء يقوى على محاكمتهم، ولا نائب عامٍ يستطيع أن يسطر في حقهم مذكرات جلب، أو يصدر أوامر بالتحقيق معهم أو اعتقالهم، وبدل أن يكونوا مناط العدل، وملجأ الناس لئلا يظلموا أو يهانوا، فإن استناباتهم تسيس، وأوامرهم توظف، وأحكامهم وإجراءاتهم تسعر بثمن، وتقدر ببدل.
أما عامة الناس، أو المخالفين والمعارضين، فإن المحاكم تتسع لهم، والقضاء يشملهم ويردعهم، والنائب العام يتربص بهم ويلاحقهم، ولجان المراقبة والتفتيش تتعقبهم، وهيئات المسائلة تحقق معهم وتسألهم، فلا حصانة لهم، ولا حقوق فردية أو عامة تحميهم، ما يجعلهم دوماً مادةَ القضاء، ومشغلة القضاة، فمن قصر منهم عن الأداء والفداء فإنه يحكم بلا رحمة، أما من عرف الطريق، واستبان الوسيط، فافتدى نفسه بمالٍ أو عقارٍ أو ولاء، فإنه قد يبرأ ويخرج من قاعة المحكمة، وقد يدان غيره ويحكم على من ظلمه.
يستغرب حكامنا ويرفضون تدخل الهئيات الدولية المستقلة في شؤون بلادنا الداخلية، ويتهمونها بالتسيس، وأن تقاريرها غير نزيهة، وأنها غير صادقة، وأنها تخدم أطرافاً دولية، وتحابي جهاتٍ مختلفة، وأنها تتعمد التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لحساباتها الخاصة، ولخدمة سياساتها ومصالحها.
فعلى الرغم من أن بعضها متهمٌ وغير برئ في أحكامه وتقاريره، إلا أن الكثير من الهيئات القانونية والمؤسسات الإنسانية الدولية المستقلة، صادقة في تقاريرها، ومنصفة في تحقيقاتها، ودقيقة في ملاحظاتها وبياناتها، وهي تقدم أدلةً قطعية في تقاريرها، وتورد شهاداتٍ واقعية، وبياناتٍ يصعب تكذيبها، وهي تصوغ توصياتها بقصد الإصلاح وتجاوز الأخطاء، إلا أن عمى السلطات يزداد، وبغيهم يتعاظم، ويحاولون سوق العامة لخدمة سياساتهم بحجة أن هذه المؤسسات غير نزيهة، وأنها تغمض عيونها عن الجرائم الصهيونية، وتسلط الضوء على الهفوات في دولٍ أخرى، وقد نسي الحكام ورجال القانون، أن العدل واحد، وأن الحق لا يتعدد ولا يتجزأ، وأن ملة الظلم واحدةً أيضاً.
ليس في كلامي هذا مبالغةٌ أو تهويل، وهو ليس وصف حالٍ لبلادٍ بعيدة، أو دولٍ قاصية، إنها أحوال دولنا العربية، وشؤون شعوبنا الطيبة البسيطة، فنحن الذين نعاني من كل ما ذكرت، ونقاسي من كل ما بينت، فلا تظنوا أن العدل في بلادنا قائم، والحق في أرضنا موجود، بل إن بعض المواطنين يجدون العدل في غير محاكم بلادهم، ويبحثون عنه في بلادٍ غير أوطانهم، يلتمسون عندهم العدل، ويبحثون في قوانينهم عن الحق، وفيها قد ينصفون ويستعيدون حقوقهم، ويوقفون المعتدين عند حدودهم.
رغم أننا أهل العدل، وأصحاب عقيدة الحق، فديننا يدعو إلى إحقاق العدل، وإرساء مفاهيم المساواة، ويجرم الظلم، ويعاقب المعتدي، وقد كان قضاتنا الأوائل يسائلون الحكام، ويوقفون المسؤولين، ويرفضون المفاضلة بين المتخاصمين على أساسٍ من الصفة أو النسب، أو على خلفية منصبٍ أو جاه، بل كان الجميع يقفون أمام القاضي على قدم المساواة، مجردين من أي صفةٍ أو نسب، وكان باب القضاء على علوه وسموه مفتوحاً أمام الجميع، يدخله كلُ شاكٍ، ويلج إليه كل مظلوم، فلا حاجب يمنع، ولا قانون يعرقل، ولا سياساتٍ تخوف وترهب، ما جعل القضاء مأمن المواطنين، وملجأ المظلومين، ورادع الظالمين المعتدين.
أيها القضاة ويا رجال القانون، أيها الممسكون بميزان الحق، يا من تملكون قلماً لا يخاف إلا ممن برأه، ولساناً لا يخرس إلا أمام من أنطقه، وعقلاً يشكر من أنسأه، وميزاناً بكفتين لا يكذب ولا يغش، ولا يخدع ولا يظلم، كونوا حراساً للحق، أمناء على العدل، واعملوا لمنزلتكم في أعلى الجنة، في الفردوس الأعلى، ولا تقطعوا من نار جهنم حجارةً تكون مكاناً لكم، ولا تجعلوا من ظلم الناس وقوداً به تحرقون أجسادكم، بل انطقوا بالحق ولا تخافوا، واحكموا بالعدل ولا تراعوا.