دكتاتورية الديمقراطية
ـ إن كلمة الديمقراطية يونانية الأصل، وتعني حكم الشعب " نفسه بنفسه " وهي شكل من أشكال الحكم السياسي القائمٌ علَى التداول السلمي للسلطة وتغليب حكم الأكثريّة مع مراعاة احترام حقوق الأقلية القائمة على المواطنة والمساواة بين جميع أفراد الشعب في الحقوق والواجبات.
كسياسي ألماني منحدر من أصول سورية أحببت أن أتطرق إلى النقاش الذي يدور حول الديمقراطية في ظل الربيع العربي الذي ينتشر في المنطقة العربية قاصدا من وراء ذلك توضيح بعض جوانب النظام الديمقراطي, وخاصة التطبيقية والعملية وتبيان بعض مخاطر ومساوئ تطبيق النظام الديمقراطي بشكل خاطئ.
في كثير من الأحيان ينتابني الشعور بالخيبة من بعض المفكرين والمثقفين وحتى السياسيين عندما أسمع بعض المناقشات والحوارات حول النظام السياسي الديمقراطي ومدى وجدوى تطبيقه في العالم العربي حيث يتصور الكثيرون بأن الديمقراطية " كالعصا " السحرية التي يمكن بواسطتها التغلب على جميع المشاكل والرواسب العالقة في المجتمع وإمكانية نقل هذه المجتمعات بين عشية وضحاها من التأخر والتخلف إلى مجتمعات متحضرة ومتقدمة دون البحث بشكل علمي بمخاطر ومساوئ هذا النظام الديمقراطي ومدى تلائمه مع المجتمعات العربية.
فمثلا يمكن أن يتحول النظام الديمقراطي إلى نظام دكتاتوري بواسطة الأغلبية ولو كانت هذه الأغلبية بسيطة جدا بحيث لا تتجاوز 50,1% والتي يمكننا أن نسميها ديكتاتورية الديمقراطية. في الحكم السياسي الديمقراطي يسلم المجتمع - ومن ضمنه المعارضة - الحكومة المنتخبة ديمقراطيا كل صلاحيات إتخاذ القرارات من أجل إدارة البلاد وصولا إلى الانتخابات التي تليها ولا تبدأ المعارضة على العمل وبكل الطرق إلى إسقاط الحكومة المنتخبة شرعيا مثل ما حصل في الانتخابات الأخيرة بمصر والتي نرى نتائج افرازاتها السلبية والتهديدات الجسام التي تهدد ليس النظام السياسي فحسب وإنما جميع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. فعلى سبيل المثال عندما قررت الحكومتين البريطانية والاسبانية عام 2003 المشاركة في غزو العراق كان أكثر من 84% من البريطانيين و90% من الاسبانيين ضد المشاركة في احتلال العراق ومع ذلك لم تتقيد الحكومتين بالرغبة الشعبية وشاركتا في احتلال العراق.
في الحقيقة لا يمكن القول بوجود ديمقراطية مطلقة, بل ديمقراطية نسبية, حيث أن تطبيقها يختلف من بلد إلى آخر حسب درجة الوعي والنضج التي وصل إليه المجتمع المدني. الديمقراطية لا تتم بدفعة واحدة وبشكل كامل, لكنها تبدأ بشكل بسيط وتنمو وتكتمل وتنضج مع مرور الزمن عبر نضال الشعوب ورعايتهم لها وتمسكهم بها وإيمانهم بمبادئها. والنضج الديمقراطي يحتاج إلى حقبة من الزمن ومرحلة كبيرة من المخاض الاجتماعي والسياسي والفكري تسوده الصراعات والتجاذبات والتضحيات التي يدفعها المجتمع كثمن من أجل الوصول إلى هذه المرحلة. على سبيل المثال فإن مرحلة " النضج " الديمقراطي في المجتمع التركي استغرق عشرات السنين دفع خلالها الشعب التركي ثمنا باهضا إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن حيث عانى من الإنقلابات العسكرية المختلفة بحكم صراع الافراد والأحزاب للوصول إلى السلطة. كما أن " للنضج " الديمقراطي كذلك علاقة " وثيقة " في التربية حيث تبدأ من المنزل وصولا إلى جميع مؤسسات التعليم وعلى كافة المستويات. إن الوصول إلى مجتمع يفكر ويحاور ويتصرف بشكل ديمقراطي يحتاج أقل تقدير إلى جيل كامل يعيش تجربة النظام الديمقراطي.
لقد أثبتت التجارب العديدة وفي مجتمعات مختلفة بأن الديمقراطية السياسية والعقيدة العسكرية لا يلتقيان لأنهما متضادان والذي يريد أن يطبق نظاما سياسيا ديمقراطيا لابد من إبعاد المؤسسة العسكرية والقوات المسلحة عن السلطة وعن مراكز إتخاذ القرارات السياسية.
ـ يمتلك النظام السياسي الديمقراطي طرقا وأساليبا عديدة للتحايل والخداع كبقية الأنظمة الأخرى حيث يتم فيه امكانية اتخاذ قرارات لا تتناسب ومصلحة البلاد، بل وفي بعض الأحيان تتخذ بعض الأحزاب قرارات مخالفة لقيمها ومبادئها لأن قيادة الحزب تسعى للمحافظة على بقائها في السلطة. عندما تريد قيادات بعض الأحزاب أن تمرر شيئا من هذا القبيل, فتبدأ من الأعلى الى الأسفل وبواسطة وسائل الترغيب والترهيب التي لديها وبالضغط على أعضاء حزبها وبتحريك مفاصل الكيان السياسي يتم التصويت بالطريقة " الديمقراطية " وبالتالي تمرير القرارات التي تسعى إليها قيادة الحزب بثوب "ديمقراطي". مثل هذا التكتيك " الديمقراطي " حصل عام 1999 داخل حزب الخضر في ألمانيا عندما كنت عضوا فيه حيث توجب على الحزب أن يوافق على مشاركة ألمانيا في حرب كوسوفو ضد يوغسلافيا آنذاك ولأسباب إستراتيجية وضغوط خارجية. بالرغم من أن هذا كان ضد قيم ومباديء الحزب لأن حزب الخضر كان قد نشأ من تجمعات حركة السلام ومجموعات حماية البيئة في ألمانيا فهو كان يعتبر حزب سلام ومن أجل حماية البيئة. إضافة إلى ذلك في الديمقراطية يتم " سرقة " الأفكار والمشاريع الجيدة التي يتم طرحها من قبل المعارضة ويتم نسبها إلى الإغلبية البرلمانية. الأفكار التي تقدمها المعارضة في البرلمان يتم رفضها أولا في جلسات البرلمان ولكن بعد أسابيع قليلة تقوم الأغلبية البرلمانية بتقديم هذه الأفكار أو المشاريع ذاتها إلى البرلمان للتصويت عليها وكأن الفكرة فكرتها والمشروع مشروعها.
ـ لا يعد النظام السياسي الديمقراطي النظام الأمثل في تداول السلطة، لكنه من أفضل الانظمة المتوفرة لدينا الآن. إن الديمقراطية ممارسة وعملاً لا يمكن أن يطبقها إلا من يؤمن بها ايمانا كاملا وأن تطبيقها يبدأ من قمة أفراد المجتمع أولا ومن ثم يتم تحقيقها على أرض الواقع, فلذا يجب علينا أن لا ننتظر من الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي أن تجلب لنا الديمقراطية أو من الفاسدين أن يجلبوا لنا الإصلاح والتغيير لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
المثل الألماني يقول "ليس كل ما يلمع ذهباً " ونحن علينا أن ندرك بأن للديمقراطية مساوئ ومحاسن يمكن أن تنقلب إلى الديكتاتورية في أي لحظة من لحظات العمل السياسي ومع ذلك ورغم كل مخاطرها فأنا من الذين يؤمنون بها.
نائب ألماني سابق من أصل سوري