تفجير الصراعات بين الاحزاب والجماعات السياسية في مصر ادى إلى عسكرتها
تخالجنا احساسات تنم عن الرعب والاشمئزاز ازاء ضروب الخلافات والنزاعات التي تضطرم بصورة دائمة بين الاحزاب والجماعات السياسية المتصارعة في الشقيقة مصر ، والتي ظلت بسببها في حالة تذبذب دائم بين طرفي نقيض، هما الطغيان والفوضى ، وان من بين الاضطرابات والاختلافات التي تشوه سجلات تلك الاحزاب والجماعات، ما نجده من ان قادة هذه الاحزاب والمفكرين المنتمين اليها والمدافعين عن مبدأ الاستبداد في ذاته ، يسهل عليهم ان يقيموا البراهين والحجج واسباب التبرير والتسويغ ضد بعضهما بعضا.
لقد قامت ثورة 25 يناير ثورة الغضب ، وكما تسمى احيانا ثورة اللوتس - وكان حقا لها - على اسباب قلة الحريات السياسية وندرتها وتراجعها ،وحالة الطوارئ وفرض قوانينها، وحالات البطالة وندرة الاعمال، ووحشية البوليس واستبداده، واختلاق نظام التوريث لرئاسة مبارك، وتهالك الاقتصاد وتهاويه ،من مثل زيادة الفقر والجهل ،وازمة السكن وغلاء المعيشة وسوء احوالها ، وتزوير الانتخابات المتوالي، وكبت حريات التعبير وتكميم الافواه ،وتفجير كنيسة اسكندرية، وانتشار الفساد ؛ فتنفس الناس السعداء بثورتهم المجيدة ، وارتقبوا خيرا عاما ،وجاءت صناديق الاقتراع بالاغلبية وبنخبة جديدة على اساليب الحكم، ومع قصر مدة توليها واتهامها بعدم وجود مشاريع وبرامج واضحة ومحددة لانتشال البلاد من براثن حالتها المتردية، كما ان التعصب للفرق والاحزاب والجماعات والزمر المعاصرة على الساحة المصرية ،على الرغم من التجربة الطويلة لبعض الاحزاب ، وكثرتها وتعددها من ليبرالية، وجماعات دينية، واشتراكية، واحزاب السراي، والتعصب لهذه الفرق والاحزاب والجماعات حتى اوقع الديمقراطية في ازمة داخلية مستعصية، واشتد الصراع على النفوذ، ولعبت الايادي الخارجية الظاهرة والخفية ، العربية والاقليمية والدولية لعبتها ، وبرزت قوة اصحاب النفوذ من رجال الاعمال ورؤوس الاموال، والادعاء بتوجه الاغلبية الشرعية التي تولت زمام الامر ( الاخوان المسلمون) نحو استنساخ النموذج الايراني، ونظرة الاحزاب الاخرى بان حكمالاخوان بات عبئا على التحول الديمقراطي، وادعاءات تقسم البلاد ،والاعلان الدستوري، وحصار المحكمة الدستورية العليا ،ومدينة الانتاج الاعلامي ،مما ادى إلى استشعار الخطر الكامن بشكل عام ، حيث وضع البلاد على حوافي المخاطر السياسية والاقتصادية، وما قيل عن تدخل جماعة الاخوان المسلمين في ادارة الدولة وهيمنتهم على مركز اتخاذ القرارات ، واقصائهم القوى السياسية والاحزاب الاخرى وتهميشها وابعادها عن المشاركة ،واعتماد الرئيس المنتخب على كوادر عهد مبارك نفسها ،وتفكك التيارات الاسلامية نفسها ، واتساع الفجوة بين جماعة الاخوان والاحزاب السلفية الاخرى ، إلى غير ذلك من الدوافع والمثيرات الكامنة ، والتي دفعت البلاد إلى الغرق في بحر من الازمات، وعلى رأسها عسكرة الصراع واستعادة سيطرة الامن وبطشه.
ان ثمة مبادئ ديمقراطية تجاوزتها الاحزاب وتخطتها، سواء عن قصد او غير قصد، كان من شأنها ان تعمل على التصدي لصراع هذه الاحزاب والجماعات او الزمر السياسية والسيطرة على انحرافاتها واساليب عنفها، فمبدأ المساواة الديمقراطي يجب ان ياتي بحكم الاغلبية وهو ما كان ، كما انه يجب الاخذ باحترام وصولها، والاخذ بتطبيق نظرية الصراع والوفاق الديمقراطي، فصراع الاحزاب والافكار والاشخاص هو شيء كامن ومتأصل في صميم النظام الديمقراطي، فكما ان الهواء لازم لاشعال النار كذلك الحرية بشتى انواعها الفكرية والتحاورية ... لازمة بالنسبة للاحزاب والعصب والزمر والسياسة عامة.
لكن اذا كان الصراع يعد على هذا النحو بمثابة شرط طبيعي لحكم ديمقراطي ، فهل يتضمن نظام ديمقراطي ما في تضاعيفه بذور دماره وانهياره ايضا؟ وهذا ما يدخلنا إلى نطاق او ساحة مشكلة من مشاكل الديمقراطية الدائمة والمستمرة، وهي هل يصبح الصراع بالغ الشدة والجدية حتى يهدد استقرار النظام وامنه في الصميم؟
صحيح ان في كل النظم الديمقراطية نجد ان ثمة تهديدا متأصلا وكامنا فيها ؛ ذلك ان الصراعات الجماعية التي هي بمثابة دم الحياة بالنسبة للديمقراطية امر قد يشتد ويقوى إلى الحد الذي يغدو معه عامل تهديد وترويع، ينذر المجتمع بالانهيار والتفكك ، ومن هنا فان الظروف والملابسات التي تعمل على التخفيف من حدة المعارك الحزبية تعد من اللوازم الاساسية للحكومة الديمقراطية،ويمتلك النظام الديمقراطي عددا من هذه العوامل والظروف المخفية او الملطفة ، ومنها الولاء للدستور ،والاعتقاد القوي الجازم بان النظام القائم نظام سياسي شرعي ،والتمركز حول فكرة الترادفية والتتابعية بان النظام السياسي هو نظام ديمقراطي، وان رضا المحكومين( الشعب) هو الحد الادنى من الظروف والشروط اللازمة لقيام نظام ديمقراطي صحيح وسليم، كما ان المشاركة الواسعة النطاق في تأصيل القيم السياسية الاساسية والمؤسسية الوطنية تعد عنصرا من عناصر التراضي والوفاق السياسي، وهذا امر هام في تسيير عملية الحكم الذي تتولاه الاغلبية بمشاركة الاقلية، ذلك لان التراضي والوفاق يدمث الطريق ويمهده لتحقيق حالة المصالحة المبنية على الحلول الوسط ، والتي لا غنى عنها لاي مجتمع، ذلك ان النظام الذي يقوم على مبدأ الوفاق اوالتراضي بين الجماعات والاحزاب والجهات المتصارعة؛ لهو في العادة نظام يكون فيه اولئك الذين يجادلون ويناقشون في صراحة وحرية ممن لا يخافون او يشفقون من امكانية الوصول إلى وفاق او اتفاق عام بشأن تلك الموضوعات التي يدور حولها جدلهم ونقاشهم وخلافاتهم ايا كان اتساع رقعتها ، ففي الديمقراطية المثالية يتحقق حكم الاغلبية الشرعية من خلال تلك التوازنات المحكمة والدقيقة ما بين الصراع من ناحية والوفاق من ناحية ثانية ، فالعاملون في الحقل السياسي على اختلاف نزعاتهم الحزبية ،سوف يتنازعون حول المسائل والموضوعات العامة، لكن الوفاق يعني في صميمه ان يجري مثل هذا الصراع فيما بينهم على النحو الذي يتميز بسمات معينة ، ان المسائل والموضوعات العامة لا يتم الفصل فيها او تسويتها لا بطريق الانفعال والاحتدام والتحيز وانما باسلوب المنطق الموضوعي والعقل الهادئ المتزن، الا ان الاقلية العددية تعزي نفسها بتلك الفكرة التي تذهب إلى ان ( وقتها) او (اوانها) الذي يتسنى لها فيه السيطرة على موضوع تلك النقاشات العامة التي يتشجر حولها الخلاف والجدل ؛ لا يزال قادما في الطريق هذا في الديمقراطيات المثالية ،اما في عالم السياسيات الواقعية، فنجد ان مثل هذه الانماط المثالية قلما توجد فعلا، هذا اذا وجدت حقا، ان الانشقاقات والانقسامات في محيط السياسة المصرية قد بدأت قوية وشديدة إلى درجة استثارة دواعي العنف بين فئات الشعب وقطاعاته حيث تبرز الروح القطاعية او المحلية او الاقليمية وهي اقوى الانشقاقات التي نرجو ان لا يصل اليها الانقسام المصري.