بكر دراغمة يكتب : قبلةٌ في مصرَ
حينَ اتفقنا مرةً أن نلتقي في مصرَ ونحتسي قُبلةَ الحب الاولى فيها، احترنا أي مكانٍ في مصرَ يتسعُ سعادتنا، فأخذنا معاً نفكرُ بالأمكنة، قلتِ إنَ حبنا أطولُ ما في حياتنا كالنيلِ اجملُ وأطولُ انهار العالم، يحملنا موجهُ بين مد العشق وجَزر الذكريات فنغدو أكثر من عاشقين حينَ يتيهان في صمته ليلاً وهو يداعبُ اضواءَ القاهرة ليبعثَ روحاً تسمى السلام تطفو على سطحِ قلوبنا.
أعجبتني فكرةُ السلام وخفتُ من النيلِ الذي يهربُ دوماً امام الخطر وامام اعدائه الحقيقيين.
قلتُ فلنولي قلوبنا شطرَ مكتبةِ الأسكندرية حينها نقفُ أمام الشعراء والكتاب والروائيين امام مَن سطّروا الحياةَ كلها بانتكاساتها وانتصارتها بفرحها وحزنها بحياتها وموتها بخيرها وشرها، فهناك في الاسكندرية صوتٌ له اهتزازُ الكون.
ضحكنا أمام لُغز الامكنة فكلُ شيءٍ في مصرَ يخفي حكايةً بين العشق والحرب، في الجيزةِ مثلاً تأخذنا عظمةُ البناءِ والحضارةِ الى سر الفراعنة وعشقهم الأبدي للعظمة، فأثرتِ قولاً إن بعضهم تَكَبروا وعلوا في الأرضِ فساداً وأضلوا أقوامهم فغووا و ظلموا فتاهوا بين اهرامٍ شيدوها فسقطوا، لأن الظلمَ مهما تجبرَ وعلا مردهُ الى هلاك.
يا حبيبتي الظلمُ يُجتثُ دائما ولا يبقى، والظالمون يرحلون ويقتلون ويموتون ويغرقون ويحرّقون دائما.
في مصرَ لا يمكن أن يكونَ التقاءُ عاشقين ولا يأخذهما حبهما الى البحث عن قدسية الامكنة، لأن مصرَ بلدٌ بالأمن والسلامِ روحها، وبالخيرِ والعطاءِ وصفها، وبالحبِ والعشقِ رسمها، هي مصرُ يا حبيبتي فكل ما فيها كنزٌ للعاشقن.
غدوتُ حكيماً بين عينيكِ ومصرَ وحضاراتها الشهباء فقلتُ الفارون من الحبِ يا حبيبتي دائما يلتقون بمن يقنعهم أن الحياةَ تتسعُ أكثر بالحب، وأن الاختلافَ في الرأيِ اذا لم يكن مبنياً على الاصلاح والعطاء كان كالنارِ في الهشيم تأكل بعضها فلا تذر من شيءٍ الا تفسده.
قاطعني صمتكِ فجأة حينَ رأيتُ في عينيكِ بريقاً أشبهَ بموجٍ يحملُ عاصفةً من الدموع، فقلتِ لماذا يموتُ العاشقونَ مبكراً حينَ تُقتلُ اوطانهم؟
لأن العاشقينَ يتخذونَ من الأوطانِ قلوباً فاذا ما قُتلت الأوطانُ قٌتلوا أجبتُ بصوتٍ مبحوح، ولأنَ الأوطانَ تعيش في رواياتِ الحبِ والحرب، فكل الحروبِ سببها الحبُ وكل الحبِ يصنعُ بانتصاراته وطناً، والوطنُ ليس قطعةً من الارض نعيش عليها بل هو قطعةٌ من القلبِ إن أزفَ الموتُ منها بدأ القلبُ بالذبول والقلوب الذابلة يا حبيبتي تموتُ مبكراً.
سألتُ نفسي ما الذي جعلَ حديثنا يتقلبُ من بلسمٍ الى جُرح، أهو موتُ الأوطان؟ أم الأنسانية؟ حينَ تنهدتِ علمتُ أن قلبكِ سمع سُؤلي، فأنصتُ الى دقاته المتسارعة نحو قلبي، وبدأتِ كلماتكِ أريدُ أن نموتَ معاً، فربما مصرُ تتسعُ للموتِ أكثر من الحياة، في رابعة والنهضة والتحرير ورمسيس اشكالُ الموتِ كثيرة وسبيلها واحد هي الحرية، فدعنا نموتُ معاً من أجل الحرية من أجل أن نكون عاشقين بقبلةٍ واحدة وشهيدين في رصاصةٍ واحدة، ما اجملهُ من عشق هذا الذي نحياهُ ونموتهُ.
تبدلت الامكنة، ربما المكان الذي نحزنُ فيه يبقى في روحنا والمكانُ الذي لا حزن فيه يتلاشى سريعا ، فالحزنُ والحبُ والموتُ هنَّ المقاييسُ الوحيدةُ للذاكرة.
تبدلت الأمكنة إذن ومعها لهفةُ الحب بالحياة تبدلت الى شغفِ الحبِ في الرحيل، آهٍ يا مصرُ كنتُ أحسبكِ جامعةً للعاشقين في حبهم، تخلعينَ عنكِ جمالكِ لتواري قُبحَ انتظارهم ، آهٍ يا أرضَ الكنانة هل سهامُكِ تحملُ سُماً في نصالها تصيبُ العاشقينَ فجأة أو مصادفةً تقصدُ قلوبهم، مصرُ اذا جئنا اليكِ فدعينا نلتقط قلبينا معاً في رصاصةٍ واحدة بعدَ القُبلةِ الأخيرة.
