صديقٌ اسمه عماد خميس أبو دية
لي صديقٌ قديم، أعرفه منذ كنا تلاميذ في المدارس، إلى أن أصبحنا طلاباً في الجامعة،
هو تربي وزميلي، ابن مخيم جباليا، عشت معه في أزقة وشوارع المخيم سنين الطفولة والصبا،
لم تكن علاقتي به في الصغر قوية، كما أضحت بعد ذلك في سني الجامعة وما بعدها،
ولم تكن قواسمنا مشتركة، ولا مفاهيمنا واحدة،
فقد نشأتُ في إطارٍ إسلامي، وحافظتُ على مفاهيمي ومنطلقاتي الإسلامية،
وكان صديقي ميالاً لليسار، محباً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ناشطاً فيها، مؤمناً بمبادئها وشعاراتها،
تناقضٌ في الأفكار، وعدم تلاقي في المفاهيم، واختلافٌ في الرؤى والمشارب،
ولكن الوطن كان يجمعنا، كما كان الشعب يوحدنا،
مضت الأيام، وتوالت السنون، واختلفت الأشياء كلها، وتبدلت الأحوال وتغيرت،
غاب صديقي واغترب، درس وتعلم واجتهد، وجاء بعد سنين وقد حاز على الشهادة والخبرة،
والتقينا في دمشق العظيمة بعد غياب، وتصافحنا بعد سنين طويلة من الاغتراب،
جمعتنا ليالي فيها وأيام، التقينا خلالها في مقاهي دمشق العتيقة، وفي مطاعمها القديمة،
وسرنا في أحيائها الجديدة، وأكلنا في مطاعمها الشهيرة،
وسرنا فوق دروبٍ سار فيها المسيح عليه السلام، ومضى عليها من بعده مؤمنون برسالته،
تلاقينا على عبق التاريخ، وذكريات الماضي، وآفاق وأحلام المستقبل،
عدنا بأنفسنا إلى الماضي، بكل ما فيه من جمالٍ حتى في ظل الاحتلال،
كنا سعداء والأسلاك الشائكة تحيط بنا، وبنادق العدو تصوب على رؤوسنا،
لم نكن نخاف أن تغتال سعادتنا، فقد كانت علاقاتنا بريئة طاهرة صادقة،
لا يعكر صفوها الانتماءات، ولا يغير مذاقها الولاءات، فقد كان الوطن يجمعنا،
وذكريات المخيم ومن فيه تظللنا، وتشدنا إلى ماضٍ زاهٍ، وأيامٍ بيضاء، ورفاقٍ أخلاءَ أطياب،
أكتب اليوم عن صديقي هذا لعظم ما رأيتُ منه، وجُلِ ما قام به،
رغم أنه لم يجمعني به تنظيمٌ ولا حزب، ولا رابطة ولا إطار،
جمعتنا طفولةٌ بريئة، ومدارس بسيطة، وجامعاتٌ عظيمة،
ولكني رأيت منه أعظم ما يتمنى أخٌ من أخيه، وأبلغ ما يتوقع صديقٌ من صديقه،
رغم أنه ما زال في موقعه رابضٌ لم يغير، وأنا في مكاني ثابتٌ لم أبدل،
فرأيته على طهره القديم، ووفائه الأصيل، وعفويته الصادقة،
استغربت تصرفاته، وتوقفت عن سلوكياته، وهالني تفكيره،
بسط أمامي ماله بسخاء، وعرض علي قدراته بطيب نفس، وقال لي دونك وما تريد،
فإن كان أخوك بخيرٍ فأنت بألف خيرٍ، ونحن لبعضنا بخير،
شككني صديقي في مفاهيمي، وحيرني في معاييري،
وتركني أتساءل عن سني الماضي وظنون القطيعة والاختلاف،
فصدق ما رأيت أبكاني، وطيب ما وجدت أحزنني، وسماحة ما لمست أربكتني،
إنه صديقي العزيز الذي اختزل بصدقه صداقاتٍ قديمة، وعلاقاتٍ صادقة،
فجاء بالأولين، واستحضر السابقين، واتصل بالمنسيين، لنتذكرهم معاً،
جاء بهم من غزة ورام الله، ومن جباليا وبيرزيت، الذين فرقتهم السياسة وجمعتهم الصداقة،
صديقي الذي أحب، له علي حق الوفاء، وفضل العرفان، وواجب الشكر،
أشكره عند الله وبين الملأ،
أكبر به وأفخر، وأعتز به وأتيه،
إنه رصيد العمل، وحصيلة الحياة،
إنه أبو غسان ... عماد خميس أبو دية
لك كل التحية أخي عماد ....