في الدار البيضاء
دُعيت لإلقاء محاضرة في مدينة الدار البيضاء المغربية، بدعوةٍ من جماعة العدل والإحسان، إلا أنني كنت أشكو من غياب صوتي، وعدم قدرتي على إسماع نفسي، فضلاً عن إسماع الآخرين، وقد علق أحد الأخوة علي قائلاً، صورة بلا صوت.
حاولت الاعتذار عن المحاضرة ما استطعت، إذ أن صوتي يقيناً لم يكن يخرج، ولم أكن أتمكن نفسي من سماعه، وطنتُ نفسي على عدم الذهاب إلى مكان المحاضرة، فلن أتحدث بصوتٍ مبحوح لا يسمعه أحد، ولن أستعين بمكبرات صوتٍ شديدة الحساسية، ولن أحرج نفسي بينهم.
لكن الأخ المعني بمتابعتي، وقد كان هو نفسه منسق اللقاء، جاء ليأخذني من الفندق، وقد رآني على حالي البئيسة، وعرف أني عاجزٌ تماماً عن الكلام، إلا أنه أصر أن أذهب معه، وأخذ يقول ستلقي المحاضرة، بصوتك هذا سنستمع إليك، وأسرع لشراء بعض الأدوية التي من شأنها أن تحرر الأحبال الصوتية المستعصية.
وصلت إلى مكان المحاضرة، وصعدت إلى المنصة، القاعة تغص بالحضور، والكل ينتظر، لم أكلم أحداً، فقد كنت عاجزاً عن الكلام، ولا قدرة لي على الإتيان بكلمةٍ واحدة، مسموعة ومفهومة، بل كنت أشعر بالخجل.
قدمني مدير الجلسة بعد أن بين للحضور حالتي، أخذتُ مكاني من المنصة، واقتربت من السماعة لأقدم للحضور اعتذاري، وأبين لهم عذري، وأنني فعلاً لا أستطيع الحديث، وهذا بيان حالي، ودليل عجزي، صوتي الذي لا يبين لأحد.
وبينما أنا أعتذر، ارتفع صوتي صاخباً هداراً كما أعرفه، ويعرفه كثيرٌ من الناس، عالياً صادحاً مجلجلاً، جهورياً مدوياً، لا أدري كيف انطلق، وكيف استعاد عافيته، وقد بدأتُ حديثي داعياً الله عز وجل، إكراماً لهذه الجماعة وشيخها أن يمن علي بصوتي، لألبيهم وأشجي مسامعهم بحديثٍ عن فلسطين وأهلها، وعن الأمة وأحزانها، فاستجاب الله دعائي والحضور، وما إن انطلق لساني مدوياً، حتى غصت القاعة بالتكبير فرحاً بأن الله استجاب دعوتهم، وحقق أمنيتهم، ولبى مطلبهم.
تحدثت مستغرباً حالي قرابة ساعة كاملة، طفت على الكثير من القضايا، لم أستثن إلا النزر اليسير مما بات معروفاً لدى العامة، لم يخفت صوتي ولم يبح، وبدا صافياً كما عهدته.
أنهيت محاضرتي، وبدأت أستمع إلى الأسئلة التي وجهت لي، وعندما جاء دوري لأجيب أسئلتهم، أمسكت السماعة واثقاً من نفسي، فقد تحرر صوتي وانطلق، وإذا به أبداً لا يخرج، ولا يبين منه حرف، سوى بحةٍ خافتة، لا تقوى كل مكبرات الصوت على تكبيرها أو تحسينها، اعتذرتُ وتوقفت عن الحديث.
لا تفسير عندي للأمر أبداً، إذ في الوقت الذي لم ينفع فيه الدواء ولا الدفئ، ولم تجد المشروبات الساخنة، ولا السوائل المرطبة، لم يكن إلا الدعاء، فقد ارتفعت أكف الحاضرين بالدعاء، فاستجاب الله دعوتهم، وما إن انتهيت من محاضرتي، حتى عدت أبح الصوت أسوأ حالاً مما كنت عليه، ولكن الله عز وجل كان باراً بهم، محباً لهم، فلم يخذل جهدهم، ولم يفرق جمعهم، ولم يخيب رجاءهم.