الشيزوفرينيا العربية

تم نشره السبت 28 كانون الأوّل / ديسمبر 2013 09:41 صباحاً
الشيزوفرينيا العربية
مصطفى يوسف اللداوي

ليس هناك شك بأن الدول العربية تعاني من مرض الشيزوفرينيا، وأنها تعيش حالة متقدمة جداً من مرض الفصام في الشخصية، وقد بدت عليها كل مظاهر هذا المرض، رغم أنها تحاول أن تثبت أنها سوية وسليمة، وأن تصرفاتها عقلية ومنطقية، وهي متناسقة ومنسجمة، ومنظمة ومنتظمة، وأنه لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا شذوذ ولا انحراف، وأنها عاقلة وليست مجنونة، وأنها إنسانية وعقلانية، وطبيعية وواقعية، نافيةً عن نفسها أي تهمةٍ بالتناقض، أو الفصام في السلوك والتصرفات.

إلا أن الحقيقة التي تعرفها الشعوب العربية كلها، أن أنظمتها مريضة منذ زمنٍ بالفصام في الشخصية، سواء اعترفت أو أنكرت، وأن عليها أن تقبل بهذه الحقيقة إن كانت ترغب في الشفاء، وتبحث عن العلاج، فاعتراف المريض بمرضه يشكل أولى خطوات العلاج، ويساعد على الشفاء، إذ أن كل الدلائل تشير إلى أن المرض قد استبد بها، وسيطر عليها، وتمكن منها، فأصبح من الصعب عليها أن تنكر أو تنفي، إلا أنها تكابر وتعاند، وترفض الاعتراف، كما لا تقبل بالعلاج، وهو ما يجعل التعامل والتفاهم معها صعباً.

فهي تدعي الديمقراطية وتمارس الاستبداد، وتقول بأنها شفافة وهي أبعد ما تكون عنها، وتصف انتخاباتها بأنها نزيهة وهي في حقيقتها مزورة، وتدعي العدل وهي تمارس الظلم بأبشع صوره، وتقول بأنها تطبق معايير مهنيةٍ منصفة، وهي في حقيقتها تحتكم إلى منظومةٍ من العلاقات الشخصية والمنافع الفردية، وتقول بأنها تنفذ سياسات إنمائية متوازنة، لكنها تقوم بمشاريع إنمائية انتقائية، بما يخدم مصالحها، ويحقق منافعها، وفي مناطق معينة تهم بعض المسؤولين، بينما تهمش مناطق كثيرة، وتحرمها من حقوقها.

وهي تقسم بالله بأن سجونها خالية من المعتقلين السياسيين، وأنه لا يوجد فيها معتقلوا رأي، ولا معارضون سياسيون، ولا دعاة حقوق الإنسان، ولا ممثلوا مؤسسات مجتمعٍ مدني، ولكن الحقيقة أن معتقلاتها تغص بآلاف المعتقلين، ممن يصنفون بأنهم معارضة أو أصحاب رأيٍ حرٍ، كالكتاب والصحفيين، كما تدعي بأنها لا تمارس التعذيب في سجونها، ولا تجبر المعتقلين على الإدلاء باعترافاتٍ تحت الضغط والإكراه، وأنها تمنح المعتقلين حقوقهم، ولا تحرمهم مما نص عليه القانون، إلا أن سجونها مسالخٌ للتعذيب، وزنازينٌ للقهر، وقبورٌ لآلاف المعتقلين، في هدرٍ غير مسبوقٍ للكرامة الإنسانية للمعتقلين في سجونها.

وهي ترتكب أكبر المجازر، وأفضع المذابح، فتقتل بالجملة والآحاد، وتطلق النار غزيراً على المظاهرات والتجمعات، وتدوس بالدبابات والجرافات أجساد المتظاهرين والمعترضين، وتسحق عظام الأموات والأحياء معاً، وتفجر المؤسسات والثكنات، وتقتل العسكريين والمدنيين، وتعتدي على المساجد والكنائس، وتقتحم الجامعات والمدارس، وتلقي بالطلاب من فوق أسطح المباني، وتقتل من شاءت بمديةٍ أو بسكين، أو تدهسه بسيارة أو تسجله بناقلة، أو تقنصه ببندقيه أو تغتاله بمسدس، أو تخنقه بغازٍ سامٍ، ثم تتهم الآخرين بأنهم إرهابيون قتلة، ومأجورون فسدة، يسعون إلى تخريب البلاد، وترويع العباد، وأنهم يقفون وراء حريق الوطن، ودمار مستقبله.

وهي تدعي بأنها سيدة حرة ومستقلة، وأنه لا يؤثر على قرارها أحد، ولا تملي جهةٌ عليها، وأنها لا تخضع للشروط، ولا تستجيب للضغوط، ولا تقبل الوصاية من أحد، ولا يكرهها على القيام بأمرٍ غير شعوبها، إلا أن الواقع يقول بأنها أنظمةٌ مرتهنة، وهي تابعةٌ وخاضعة، تتلقى التعليمات، وتنفذ السياسات، وأنها لا تستجيب لأماني شعبها، ولا تحقق مطالبه، ولا تقبل أن تمضي وفق سياسته، بل تنفذ عكس رغباته، وتقمع من اعترض من شعوبها على سياستها.

لا تكتفي الأنظمة العربية بإنكار مرضها، ونفي معاناتها، ورفض تشخيصها أو علاجها، بل تبادر إلى اتهام الآخرين من مواطنيها بالمرض، وتصفهم بأنهم مصابون به، ويعانون منه، ويشكون من مضاعفاته، وتجبرهم على القبول بتشخيصهم، وتلقي العلاج الذي تصفه لهم، وهو علاجٌ في غالبه مرٌ وقاسي، وعنيفٌ وشديد، ويجب على الشعوب أن تتجرعه، وأن تقبل به وترضى، وإن لم تستسغ طعمه، أو تقبل بآثاره ومضاعفاته، ولدى الأنظمة العربية من الوسائل والسبل، التي من شأنها ضمان الوصول إلى النتائج المرجوة بسرعة.

أما من عاند واستكبر، ورفض وتمنع، وأبى أن يخضع أو يلين، ورفع الصوت عالياً وصدح برأيه دون خوفٍ، فإنه يتهم بالعمالة والارتباط، وأنه ينفذ أجندة معادية، ويرتبط بأنظمة أجنبية، مما يستوجب اعتقاله ومحاسبته، ومحاكمته وتنفيذ أقصى العقوبات في حقه، أو يتهم بالجنون والسفه، ويقاد إلى المستشفيات العصبية، ليخضع إلى جلساتِ علاجٍ كهربائية، التي هي في حقيقتها جرعات تعذيبٍ كهربائيةٍ قاتلة، فهو إرهابي يستحق ما ينزل به عذاب، أو يحل عليه من عقاب.

أما من رغب بالنجاة، وآثر الفرار بنفسه، فإن عليه أن يعطل عقله، ويلغي تفكيره، ويسلم للأنظمة بما ترى، ولو كان ما ترى حلماً في منام، أو خيالاً جامحاً لمدمنٍ على مخدرات، أو كان رأياً لمجنونٍ يرى فيه نفسه العظمة والخلود والكبرياء، ويعتقد أنه صاحب الوحي ومسير العدل في هذا الزمان.

وعلينا أن نقتنع ونسلم، ونخضع ونقبل، إذ أن للأنظمة من السلطان، ما ليس للعقل ولا للقرآن، ومن لم يصدق من الأجيال الجديدة فعل الأنظمة وسحر سلطانها، فإن عليه أن يسأل من سبقه من المعارضين، أو يمر على قبورهم ومن سبقهم أجمعين، فهذه معالمٌ وشهاداتٌ لا تنكرها الأجساد، ولا تخفيها العقول، وسلوا إن شئتم المدفونين والمجانين، والمنفيين والمبعدين، والمعتقلين والمعزولين، عل في بيان حالهم شفاءٌ لما في الصدور.



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات