تركيا والمنطقة
شاهدنا قبل أيام... ليست بالبعيدة الانتصار التاريخي والمدوي للرجل القوي اردوغان ، "انتخابات المجالس البلدية"،وأنا هنا، عندما أتحدث عن اردوغان، فإنني صراحة أقصد الدولة التركية ،التي أراها اليوم قد عادت من جديد إلى مجدها وعراقتها، كما كانت عليه سابقا ،قبل أن تهتز حكومتها قبل أشهر ،عندما وقع مجموعة لا تتجاوز الثلاثة من وزرائها، في مصيدة الفساد، تلك القضية التي ربما اعتبرت بداية كابوس مقبل على الحكومة الحالية ،التي تسير تركيا بكل عزم وتحدي وإصرار في جعلها في مقدمة الدول الكبرى، لا بل ذهبت هذه الحكومة التي أتحدث عنها إلى أبعد من ذلك في مقارعة الكبار وتحديهم ،وفرض العقلية التركية عليهم في بعض الأحيان....
وأقصد هنا الاعتداء الشهير ،الذي قامت به القوات الخاصة الإسرائيلية التابعة للقوات البحرية قبل سنوات ،في اقتحام أكبر سفن القافلة "مافي مرمرة" ،التي كانت في ذلك الوقت تحمل 581 متضامناً مع الفلسطينيين ،" حركة حماس" في غزة ذلك الهجوم والاعتداء ،الذي أسفر كما تعلمون عن مقتل العشرات من الأتراك في تلك العملية ،التي أغضبت اردوغان كثيراً ،بحيث كانت القشة التي قسمت ظهر البعير في العلاقات الإسرائيلية التركية ،وجعلت منها علاقة جافة لغاية هذه اللحظة ،التي لن ينسى الشعب ما قطعه اردوغان على نفسه أمام حكومته وشعبه وممثليهم ....... عندما وقف أمام ممثلي الشعب التركي في جلسة طارئة،وفي ليلة ظلماء ،لا يوجد فيها لا بدر ولا نجوم ،وقد كان وقتها أردوغان قد ايشتاظ غضباً، وقال بصريح العبارة :سوف تندم إسرائيل ندماً شديداً على تجرئها لمهاجمة أسطول الحرية …....
ولعل البعض ربما ساوره قبل أشهر شعورٌ بأن الرجل الذي حكم تركيا لسنوات منتصرا على أعدائه من العلمانيين و الصهاينة، ربما أصبح من الماضي ،مشيرين بذلك إلى أن نظامه الذي كان كالصخرة التي لا تكسر ، ربما اليوم كسرت، وبدأ حكمه بالاحتضار!!!!، لكن هذا الكلام غير صحيح، والسبب في ذلك يرجع إلى أن من كتبوا وحللوا على هذا الأساس في الأشهر السابقة كانوا مخطئين، ولم يلتفتوا بصورة حقيقية وجدية إلى حزب العدالة والتنمية ،الذي ربما أغفلوا كثيرا كيف وصل إلى سدة الحكم والرئاسة، وقيادة تركيا من إنجاز إلى إنجاز......
وكذلك ربما لم يتوقعوا أو يصدقوا أنٌ بائع الكعك والبطيخ في شوارع اسطنبول سابقا في فترة المراهقة ،سيصبح يوماً من الأيام زعيماً لتركيا ،كما لم يكن يتوقعوا، أنُ عمدة اسطنبول سابقا،" 1999"، الذي أقيل من منصبه، وسجن أربعة أشهر بعد يوم من إلقائه مجموعة من الأبيات الشعرية للشاعر الإسلامي محمد عاكف ، سيصبح يوماً من الأيام ملهما للشعوب العربية، وحتى الأوروبية ،خاصة بعد مواقفه الأخيرة في كثير من القضايا المناصرة للعرب والمسلمين، بدءا من الحرب الإسرائيلية على غزة، وانتهاءً بدعمه لثورات الربيع العربي الدامية ،وتأييده بصورة علنية لوصول طلائع الأخوان المسلمين في مصر إلى سدة الحكم، بالإضافة إلى موقفه المؤيد للثورة السورية، التي مازالت مستمرة، ولم تنطفئ نيرانها وألهبتها المستعرة لغاية هذه اللحظة...... .
بناء على ما تقدم:
إن الدولة التركية اليوم بقيادة الرجل القوي أردوغان مهيأة أكثر من أي وقت مضى، لتلعب دورا إستراتيجيا وحيويا في المنطقة ،خاصة وأن الأحداث العالمية التي تحدث هنا وهناك، سواء ما يتعلق بالربيع العربي ،أو التقارب الإيراني الأمريكي ،أو ظهور الحركات والجماعات الإسلامية في بلدان عربية غزاها الربيع العربي تتماشى في فكرها السياسي مع الموقف التركي، أو العلاقات الخليجية الأمريكية ،التي أصبحت على كف عفريت ،خاصة السعودية التي رأت في الموقف الأمريكي الأخير على سوريا والتقارب الإيراني الأمريكي بشأن الاتفاق النووي الإيراني، وعدم دعم الأخيرة للموقف السعودي لتأييده لموقف المنامة من الاحتجاجات التي قامت بها المعارضة البحرينية المحسوبة على النظام الإيراني في ذلك الوقت، كل هذا الذي ذكرته من خلافات بين تلك الدول يصب في مصلحة الدولة التركية، بحيث يقودها في أن تلعب دورا حيويا ومحوريا ليس في الشرق الأوسط فحسب ،إنما في العالم ،وهذا ليس من سبيل المجاملة .
فالسعودية ومعها دول عربية تستهجن وتدين المواقف الأمريكية الأخيرة بدءا بعدم توجيه ضربة عسكرية للنظام الموجود في سوريا ، وتجاهلها لمسألة تسليح المعارضة السورية، كما وعدت سابقا ؛ فالسعودية ومعها دول عربية ترى في النظام السوري الحالي خطرا عليها لاسيما علاقته الوثيقة بالجمهورية الإيرانية، التي لها موقف عدائي من تلك الدول العربية ، كما أن المملكة ومعها دول عربية وتركيا تدعم المعارضة السورية(الجيش الحر)؛للإطاحة بالنظام الحالي، الذي عملت ،فهي تدعمه عسكريا وماليا ولكن ليس بالصورة الحقيقية؛ لغياب التنسيق بين أوجه وأركان المعارضة في سوريا ،وربما بسبب اختلاط الحابل بالنابل، وأقصد هنا الجماعات المسلحة المتشددة الذي ليس موضوع حديثنا في هذه العجالة....
كما أن تركيا ودول عربية تشتركان في نفس التوجه، بضرورة تخليص سوريا من نظام الأسد،وهذا التوجه سوف يمكن الدول العربية في توحيد الرؤى، خاصة أن الدول الأخيرة رأت في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية الأخيرة في الشرق الأوسط مواقفا عدائية وغير موضوعية، ولا تحترم الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت معها سابقاً، لهذا ربما تحاول الدول العربية في القريب العاجل، ليس التقرب من الدولة التركية، إنما توحيد المواقف للقضاء على المواقف العدائية للولايات المتحدة الأمريكية أو- إن صح التعبير - إخمادها وترويضها، وهذا الشيء إن تحقق فأنه ليس من الصعب تحقيقه ،خاصة كما تعلمون الفارق الكبير في العلاقات بين السعودية ،وبعض الدول المؤيدة لها في وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الرئاسة في مصر، وقيام الأخيرة باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة وحركة إرهابية، وهذه هي نقطة الخلاف الرئيسة بين تركيا وهذه الدول.....
كما أنني أرى من وجهة نظر خاصة :
إن النموذج التركي الحالي في المنطقة "الشرق "الأوسط " نموذجا يجب أن يحتذى لكثير من الدول العربية الطامعة إلى النهوض إلى العالمية وهذا يتطلب من هذه الدول ، تغليب مصلحة البلاد والأوطان على مصلحة الكرسي والمناصب، التي سببت لنا كابوسا لن نتخلص منه بسهولة "الربيع العربي وثوراته الدامية ".....
خاصة، إذا علمنا أن النموذج الذي أتحدث لكم عنه ضمن سياق هذه المقالة ،قد نجح إلى حد ما في طمأنة الغرب، وجعل تركيا ليس من طلائع دول الشرق الأوسط فحسب، إنما دول العالم،... ناهيك عن الفائض المالي الكبير لموازنتها في كل عام ،بالإضافة إلى وصول مديونيتها إلى الصفر، بعدما كانت غارقة ببحرٍ من الديوان والفوائد ،وهذا ساهم بشكل كبير في استقلالية القرار التركي عن دول الغرب، وأمريكا، وإسرائيل، مما ساعد بشكل كبير وحقيقي، في بروز دور تركيا، كدولة ضاربة في العالم، منتصرة بذلك على أعدائها من الغرب وإسرائيل، بالإضافة لشأنها الداخلي "علمانية" ويهود الدونمة " الذي لا يخفى عليكم ، وقد تابعتموه ضمن مقالات سابقة، وضمن سياق هذه المقالة، تاركا لكم الحكم على هذا النموذج ،كلا حسب فهمه ونظرته للمستقبل، من حيث العلاقات السياسية، الاقتصادية، الإستراتيجية ،والعسكرية، لكل دولة من دول العالم .....وللحديث بقية.