جدار قوى اليمين

تم نشره السبت 19 نيسان / أبريل 2014 12:46 صباحاً
جدار قوى اليمين
علي سعيد بدوان

باتت خطة الوزير الأميركي جون كيري العتيدة التي "أقاموا وأقعدوا" الدنيا لها طوال الشهرين الماضيين في مَهب الريح بغض النظر عن تمديد المهلة الزمنية لإنجاز التوقيع عليها إلى عام 2015.

فهل سيكون مصير تلك الخطة -كما سابقاتها- نحو الاندثار والموت السريري؟ وهل الأسباب التي اعترضت تطبيقها تتمثل فقط في عُقدتي الاستيطان ويهودية الدولة، أم أن الأمر يتعلق بالحالة الداخلية في "إسرائيل" والتي باتت فيها قوى اليمين واليمين المُتطرف تَسبح وتلعب في صياغة القرار الإسرائيلي؟

الجدران السميكة

نبدأ بالقول إن الجدران التي تصطدم بها خطة وزير الخارجية الأميركي جون كيري سميكة وكثيرة ومُتعددة، لكن أبرز تلك الجُدران السميكة غير المرئية والمرصودة للكثيرين تقع داخل مربع المستوى الداخلي "الإسرائيلي"، والتي لها علاقة بالحضور الهائل لقوى اليمين واليمين المُتطرف داخل الدولة العبرية الصهيونية، وهي القوى التي أمسى الشارع هناك مُنزاحا لها أكثر من أي وقتٍ مضى على حساب حضور ما يُسمى بالقوى "السلامية الإسرائيلية" وقوى ما يسمى أيضا بـ"اليسار الإسرائيلي الصهيوني".

"الجدران التي تصطدم بها خطة كيري سميكة وكثيرة ومُتعددة، لكن أبرز تلك الجُدران السميكة غير المرئية والمرصودة للكثيرين تقع داخل مربع مستوى الداخل الإسرائيلي"

وبالطبع، فإن أحد أهم الأسباب التي قادت نحو تعاظُم حضور قوى اليمين واليمين المُتطرف في "إسرائيل" يعود إلى التغيّرات الديموغرافية والإثنية التي طرأت داخل خارطة المجتمع "الإسرائيلي" خلال العقود الثلاثة الماضية، وليس فقط بتأثير الصراع العربي والفلسطيني مع الطرف "الإسرائيلي" ومساراته المُعقّدة.

فخلال العقود الثلاثة الماضية أسفَرت التغيّرات الديموغرافية داخل الدولة العبرية الصهيونية عن تبلور ثلاثة قطاعات سُكانية رئيسية داخل "إسرائيل"، وهو ما اعترف به وتحدث عنه البروفيسور "الإسرائيلي" شلومو بن عامي المحسُوب على تيارات "اليسار الصهيوني"، وتلك القطاعات هي: المهاجرون من دول مجموعة الاتحاد السوفياتي السابق، الذين وفد منهم في عقد التسعينيات من القرن الماضي نحو مليون ونصف المليون مُهاجر، وهي الهجرة الأكبر في تاريخ الدولة العبرية والحركة الصهيونية. بالإضافة إلى الشرقيين، والمتدينين. فباتت هذه التجمعات تضم حوالي 80% من المستوطنين (المُستعمرين) اليهود في "إسرائيل" في المناطق المحتلة عام 1967 وحتى داخل التمددات الاستعمارية الإجلائية في مناطق عام 1948 في الجليل والنقب والوسط.

في حين لم تنجح أي من قوى "اليسار الصهيوني" في اختراق هذه التجمعات بشكلٍ مؤثر، فتلك المجموعات السكانية -خاصة مهاجري دول الاتحاد السوفياتي السابق- خضعت منذ البداية -وما زالت- لتأثير نخب ذات توجهات يمينية صرفة متخمة بالرواية الميثولوجية الصهيونية. فاليمين واليمين المُتطرف في "إسرائيل" حرصا على احتضان النُخب المُثقفة لديهم، ومساعدتها على بناء منابر إعلامية خاصة بها كالصحف الروسية وقنوات التلفزيون ومحطات الإذاعة باللغة الروسية.

المسارب المُظلمة

ويشار في هذا الصدد إلى أن يهود تلك الدول الشرقية الذين وصلوا لفلسطين المحتلة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي يُشكّلون وحدهم نحو 20% من إجمالي عدد المستوطنين في "إسرائيل"، المنضوين في حزب المتطرف اليهودي المولدافي الأصل أفيغدور ليبرمان "إسرائيل بيتنا"، وهو الحزب الذي لعب -وما زال- دور مقاول للأعمال القذرة من خلال تولي قادته مناصب ومواقع مهمة في الوزارات "الإسرائيلية" الأخيرة، وفي تأجيج الأصوات اليمينية واليمينية المُتطرفة المنبعثة من داخل "إسرائيل" بالنسبة لعملية التسوية ليس مع الفلسطينيين فقط، بل ومع العرب عموما.

"أيديولوجيا، يجمع اليسار واليمين على قداسة أكذوبة "أسطورة الاستيطان"، ويرفعان من قيمة وأهداف البيت والبؤرة الاستيطانية إلى درجات عالية في سلم القيم الصهيونية وحتى اليهودية"

وفي هذا الوعاء السوسيولوجي الاجتماعي الإثني التفاعلي، نجد أن المناخ السياسي والاقتصادي الطبقي والاجتماعي داخل "إسرائيل" يقود بالضرورة فئات من اليهود، ومنهم يهود جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق باعتبارهم الإثنية الأكثر عددا والأحدث تواجدا، وهم الذين قدموا إلى فلسطين في الهجرة التوسعية التهويدية الأخيرة، ومعهم فئات من الفقراء من اليهود الشرقيين من دول الاتحاد السوفياتي السابق، يقودهم للتحول تلقائيا تجاه المسارب المُظلمة من المسالك السياسية، ومن مسالك العنصرية ضد العرب والمتعطشة للدم.

وهكذا فإن زعيم اليهود الروس أفيغدور ليبرمان بنا وأشاد قوته السياسية ووزنه الانتخابي ووزن حزبه في الشارع "الإسرائيلي" الصهيوني على الكراهية الفاشية العنصرية المعادية للفلسطينيين والعرب بشكل عام، واستطاع أن يُشكّل قوة أساسية في البرلمان (الكنيست) "الإسرائيلي" قادرة على وضع "الفيتو" على أي حل سياسي مع الفلسطينيين والعرب عموما.

انعدام الفروق

إضافة إلى ما سبق، وفي سياق تحليل وتشريح الوضع "الإسرائيلي" الداخلي، وعلاقة ذلك بمواضيع التسوية والخطة الأميركية المطروحة مع تعاظم حضور قوى اليمين واليمين المُتطرف، وهي القوى المعطلة عمليا للجهد الأميركي حتى بانحيازاته المعلومة، فإن الجمهور "الإسرائيلي" لم يَعُد يلمس أصلا وجود فروق أيديولوجية وحتى سياسية ذات مغزى بين أحزاب اليسار، ويسار الوسط، واليمين، ويمين الوسط، واليمين المُتطرف في "إسرائيل".

فمن الناحية الأيديولوجية، فإن اليسار واليمين يُجمعان على قداسة أكذوبة "أسطورة الاستيطان"، ويرفعان من قيمة وأهداف البيت والبؤرة الاستيطانية إلى درجات عالية في سلم القيم الصهيونية وحتى اليهودية.

كما يُشار إلى أن "اليسار الصهيوني" هو الذي تحمس لفكرة إقامة جدار الفصل العنصري في قلب الضفة الغربية الذي حاصر الأرض وعموم المدن والقرى الفلسطينية، وجعل منها مناطق معزولة غير قادرة على الوصول للعالم الخارجي من خلف الجدران الفاصلة ومن دون قدرة على تطوير بنية تحتية فلسطينية على طريق إقامة الكيان الفلسطيني الموعود.

لقد اندفع يهود دول الاتحاد لتبني التوجهات اليمينية المُتطرفة، لتمييز أنفسهم عن المستوطنين المُخضرمين من خلال تبني المواقف اليمينية المُتطرفة، واتخاذ مواقف عنصرية من العرب للتدليل على إخلاصهم لـ"الوطن الجديد"، على اعتبار أن المواقف العدائية من العرب يُنظر إليها كدليل على "الوطنية"، وهو ما دعا نسبة لا بأس بها منهم للتطوع للخدمة في الوحدات المُختارة والخاصة في "الجيش الإسرائيلي"، وهو ما حدا بواحد من علماء الاجتماع في "إسرائيل" (سامي ساموحا) للقول "إن تبني المواقف المُتطرفة هي "ماركة الوطنية" المُسجلة في إسرائيل بالنسبة للمهاجرين الجدد".

"نتنياهو وفي بيئة داخلية "إسرائيلية" يمينية مُتطرفة، يُقدم نفسه باعتباره صاحب تيار "الوفاء" المتمسك بروح الصهيونية وأرض "إسرائيل التوراتية الكاملة"، والمشدود إلى الذهنية التي تربى عليها تاريخيا"

هنا نستطيع القول إن العقبة الكأداء التي تعترض طريق العملية السياسية على المسار الفلسطيني "الإسرائيلي" ومصير خطة جون كيري المعنونة بـ"اتفاقية الإطار" لا تتوقف فقط عند حدود معينة كالحديث عن الشرط "الإسرائيلي" المُتعلق بيهودية الدولة والمُطالبة بالاعتراف العربي والفلسطيني المُسبق بها، ورفض التوقيف الكلي لعمليات التهويد والاستيطان فوق الأراضي المحتلة عام 1967 خصوصا في منطقة القدس، وباقي العناصر المعروفة كرفض الاعتراف "الإسرائيلي" بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة... إلخ، بل في وجود حالة "إسرائيلية" داخلية مُتخمة بحضور قوى اليمين واليمين المُتطرف، وتعالي أصوات العنجهية الصهيونية، التي تتغذى في جانب منها على حالة الضعف العربي العام وانشغال معظم البلدان العربية بأزمات كبرى، وهي قوى تعاند مسارات الحلول المطروحة حتى بصيغتها الأميركية المطبوخة مع الطرف الحكومي "الإسرائيلي".

ذهنية منطق القوة

وخلاصة القول: إن بنيامين نتنياهو وفي بيئة داخلية "إسرائيلية" يمينية مُتطرفة، يُقدم نفسه باعتباره صاحب تيار "الوفاء" وصاحب التمسك بروح الصهيونية وأرض "إسرائيل التوراتية الكاملة"، والمشدود إلى الذهنية التي تربى عليها تاريخيا، ذهنية منطق القوة، منطلقا من إرث وفلسفة القوة التي نشأ عليها في حزب الليكود، ومن أرضية التفوق العسكري لفرض التسوية حيث "صنع السلام يستند إلى جبروت الجيش الإسرائيلي والقوة الشاملة لإسرائيل، وعلى قدرة إسرائيل الردعية".

فهو يَرفُض مبدأ الانسحاب الشامل من الأرض المحتلة عام 1967، ووقف عمليات الاستيطان، مُعتقدا أن سقف التسوية مع الفلسطينيين يقع عند حدود كيان مُرتبط في بحر كتل الاستيطان.

لكنه يسعى -ومن موقع تجربته السياسية في الحكم وقيادة القرار وعلى ضوء الحالة الدولية والإقليمية- إلى تنفيذ الضرورات تحت ما يسميه بـ "تنازلات مؤلمة" للفلسطينيين، بما في ذلك محاولة المواءمة مع الخطة الأميركية. في مقابل المعركة التي تحركها القوى اليمينية من حزب الليكود، والقوى الغارقة في صهيونيتها بالدرجة الأولى، وهي قوى ما زالت تعتقد أنها تستطيع أن تعيد الأمور إلى سابق عهدها.

( الجزيرة 19/4/2014 )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات