«مبادئ الهندسة المعمارية المدنية» لميليتسيا: الصلابة والراحة والجمال

تم نشره الأربعاء 23rd نيسان / أبريل 2014 01:39 صباحاً
«مبادئ الهندسة المعمارية المدنية» لميليتسيا: الصلابة والراحة والجمال
ابراهيم العريس

اعتادت كتب الهندسة المعمارية أن تكون شديدة التخصص، لا يطلع عليها أو يحتفظ بها سوى غلاة المهتمين، إلى جانب أصحاب الاختصاص. ومن هنا لم يحدث أبداً أن صدرت كتب في العمران في طبعات شعبية. ونعرف أن ليس ثمة في العربية سوى عدد ضئيل جداً من الكتب التي تتناول هذا النشاط الحضاري وإبداعاته، ومنها تلك التي وضعها المعماري العراقي الكبير رفعت الجادرجي، ناهيك بالعديد من الكتب الفخمة التي يصدرها بين الحين والآخر مهندسون معماريون وأساتذة عرب يكون همهم فيها أن يستعرض الواحد منهم إنجازاته في هذا الميدان، فتكون الكتب أشبه بكاتالوغات منها بالكتب الفنية العلمية التي تتوخى الفائدة العامة. ولكننا نعرف أن الوضع لم يكن أفضل بكثير في اللغات الأجنبية. ولكن اليوم تبدو كل هذه التأكيدات قديمة. ولا سيما بعدما أقدمت دار نشر ألمانية صارت الآن ذات حضور عالمي مدهش، هي دار «تاشن»، على إصدار سلسلة كتب شعبية رخيصة الثمن، أنيقة الطباعة والتبويب، يتحدث كل واحد منها عن واحد من كبار معماريي القرن العشرين والقرن الذي سبقه... وهي كتب تلقى رواجاً مذهلاً وترجمت إلى لغات عدة. وكانت الدار نفسها أصدرت كتباً عدة حول جديد الهندسة المعمارية في القرن العشرين، منها واحد ضم أسماء كبار المعماريين المعاصرين وأعمالهم، ومن بينهم اسم عربي واحد هو اسم المعمارية العراقية زها حديد، علماً بأن الدار نفسها عادت وأصدرت في السلسلة الشعبية التي نتحدث عنها كتاباً كرسته بمجمله للمعمارية العربية حديد، التي صدر عنها في الوقت نفسه كتاب ضخم رائع التصوير والطباعة يتحدث عن مجمل إنجازاتها في مجال العمران حتى اليوم، وهي إنجازات تنتشر في مناطق عديدة من العالم وعرفت أخيراً كيف تغزو بعض المدن العربية أيضاً... المهم أن هذا النوع من الكتب قفز فجأة على هذا النحو ليصل إلى الواجهة وليقتنيه مئات ألوف القراء، ما يدعو إلى الدهشة ويبعث شيئاً من التفاؤل الحضاري، بوجود قراء يهتمون بمطالعة نصوص حول فن خاص وصعب كفن الهندسة العمرانية من دون أن يكونوا مهندسين أو أصحاب بنايات.

> وإذا كان هذا الواقع الجديد يذكّرنا، مثلاً، بكتابات كبار الفلاسفة وعلماء الجمال عن فنون العمران وفلسفتها وواقعها وتاريخها، ولا سيما منهم الفيلسوف الألماني هيغل، الذي كرّس جزءاً أساسياً من كتابه الأشهر «علم الجمال» للهندسة العمرانية، وهو جزء سبق لهذه الزاوية أن تناولته في إحدى حلقاتها قبل سنوات، فإن ما نتوقف عنده اليوم هو واحد من أبرز المؤلفات التي وضعت في الماضي حول العمران. ونعني بهذا كتاب «مبادئ الهندسة المعمارية المدنية» وهو كتاب صدر للمرة الأولى في العام 1781، ليشكل في ذلك الحين فتحاً في ميدانه، ويدفع كثراً من المفكرين والفنانين إلى إعادة النظر في مبادئ العمران على المستوى النظري والعملي في آن معاً، ما يفترض أن هذا الكتاب كان نقطة انعطافية في تاريخ النظر إلى هذا «الفن» والتعامل معه كبنية اجتماعية- حضارية، وكإبداع شخصي أيضاً.

> مؤلف «مبادئ الهندسة المعمارية المدنية» هو الإيطالي فرانشسكو ميليتسيا. وكمنت أهمية هذا الكتاب في كونه غاص في منهجية نظرية أتت في ما وراء بُعدها النظري هذا، لتفسر منهجية عملية وتطوراً تاريخياً كان فن العمران عاشه منذ أقدم الأزمنة، ما يعني أن المؤلف انطلق في نصّه هذا ليس من التركيز على الأبعاد النظرية ساعياً بعد ذلك إلى العثور على تطبيقات لها في الماضي أو في الحاضر، بل من الواقع العملي الفعلي للعمران كما كان -و لا يزال في زمنه- يمارَس على أرض الواقع، ليرسم النظرية من خلال ذلك الواقع. ولقد قسم ميليتسيا كتابه إلى ثلاثة أقسام أساسية، تحدث في كل واحد منها، في شكل خاص، عن واحد من العناصر الثلاثة التي قال المؤلف عند المقدمة إنها يجب أن تتوافر لكل عمران مهما كان شأنه: الجمال، الراحة، والصلابة.

> ولقد بدأ المؤلف حديثه المفصل بتناول الجمال العمراني الذي رأى أنه لا بد أن يتضمن الزينة من ناحية، ولكن التناسق من ناحية أساسية. وهو عنى بالتناسق تلاؤم كل جزء من البناء مع بقية الأجزاء، إضافة إلى التقابل التام والتشابه المطلق بين الأجزاء التي يفترض أن تكون متطابقة، وبعد هذا هناك، في رأي ميليتسيا تلاؤم المبنى كلاً مع طابعه العام ومع وظيفته الأساسية المتوخاة منه، من دون أن ينسى التركيز الذي كان فائق الأهمية في نظره، على «ضرورة أن يكون التناسق والتساوق تامّين بين المبنى نفسه، إن كان الأمر يتعلق بمبنى معيّن، وبين ما يحيط به ويجاوره من مبانٍ سبق تشييدها بحيث لا يكون المشهد الإجمالي متنافراً.

> وبعد هذا تأتي، في رأي المؤلف، الإنجازات ذات البعد العملي: وهي تلك المتعلقة بالشكل، والارتفاع، والتوزع، والتلاؤم التام مع البيئة العمرانية والإطار الجمالي العام للزمن نفسه، ناهيك بالتلاؤم مع التضاريس الجغرافية، التي من الواضح أن المؤلف يعتبرها ذات تأثير كبير على تقبل الناس المبنى الجديد إن هو عرف كيف يتلاءم معها. ثم إن المباني كلها كمجموع تكون، في رأي المؤلف، مختلفة بعضها عن بعض تبعاً لما إذا كان الهدف منها أن تكون مباني عامة أو خاصة.

> أما الجزء الأخير من الكتاب، وهو بشكل أساسي جزء تقني، فإن المؤلف يتناول فيه مسائل مثل اختيار مواد البناء واستخدامها بالتفاعل مع عنصر المقاومة فيها، إضافة إلى مسائل مشابهة. وإضافة إلى هذا كله، يبرهن ميليتسيا في كتابه على أن الهندسة المعمارية ينبغي أن تستلهم دائماً المثل الأعلى الإغريقي- الروماني، بالتطابق مع التصور السكولائي. غير أن هذا التأكيد لم يمنع ميليتسيا من أن يكون ابن عصره، ما جعله يفرد مكانة أساسية للمسائل التي تتعلق بتقنيات البناء الحديثة (في ذلك العصر). ولأنه، وفق دارسيه، كان ذا ذهنية عملية وإيجابية، اهتم كثيراً بمسألة الراحة (أي أن يكون البناء مريحاً)، كما اهتم بمسألة الجمال. وهو في هذا الإطار عبّر تماماً -كما يقول هؤلاء الدارسون- عن انتمائه البيّن إلى تلك المدرسة العمرانية التي كان من روادها كارلو لودولي (1690 - 1761) وفرانشسكو ألغاروتي، وهذا الأخير عُرف إلى ممارسته الهندسة العمرانية وتدريسها، بكونه مؤلف كتاب مهم سبق كتاب ميليتسيا ويبدو ممهداً له عنوانه «محاولة حول الهندسة المعمارية» (1753)، كان من فضائله أنه طالب بمزيد من أقلمة الهندسة المعمارية مع الاحتياجات العملية... وهو التأكيد الذي سيستعيده ميليتسيا، منادياً بأن المنفعة يجب على الدوام أن تؤخذ في الاعتبار، حتى ولو أدى هذا إلى التضحية بالزينة والتنسيق، بل إنه دعا أيضاً إلى إلغاء كل زينة زائدة عن الحد... وهي مبادئ يمكننا أن نعثر على تفصيلاتها في كتاب آخر له عنوانه «حياة أشهر المهندسين المعماريين». ونراه في هذا النص كلاسيكياً خالصاً، وان كان يرى ضرورة أن تكون هناك زينة بقدر ما يريد المهندس الفنان، شرط ألا تخرج هذه الزينة عن إطار محاكاة الطبيعة. وهو عبّر في الوقت نفسه عن مناصرته البناء القوطي على رغم احتفال هذا البناء بالزينة والتنسيق. ومهما يكن، فإن فرانشسكو ميليتسيا (1725 - 1798) الذي كان مدرساً للهندسة المعمارية، كما كان ناقداً في الفن التشكيلي، لم يفته أن يشير أخيراً، على سبيل الاستنتاج، إلى أن العمران المثالي يجب أن يستلهم جمالياً العمران اليوناني، وفي مجال الراحة: العمران الفرنسي، ولا سيما الهندسة الفرنسية الداخلية. في شكل إجمالي كان ميليتسيا يُعتبر نيو- كلاسيكياً، ومع هذا كان يرى أن الحياة الاجتماعية، سواء أكان ذلك في مجال العمران أم في غير هذا المجال، تظل دائماً في حاجة إلى التجديد، مصراً على أن التجديد يشمل في آن معاً عناصر الجمال والراحة والتقنيات الحديثة بموادها وأجهزتها .

(الحياة 2014-04-23)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات