كنت أحلم
أمسك يد أمه .. أدارا ظهريهما , و غادرا غرفة الإدارة تاركين الصدمة تسري في عروقي كصعقة كهربائية , يرتعش لقوتها كل ما فيَّ ...
أجلس على أقرب كرسي ... أذكر جيدا بياناته العائلية التي أملاني إياها في بداية العام الدراسي ...
الاسم : احمد علي صادق
عمل الأب : مهندس
عمل الأم : ربة منزل
عدد أفراد الأسرة : ثلاثة
العمر : تسع سنوات
لم يكن فيها ما يستحق الاستهجان أو التوقف عنده ... غير انه بعد أن أملاني إياها توقف طويلا امام طاولتي و قال بصوت راج :
مس ممكن أحكيلك عن بابا ؟
طبعا حبيبي
بابا طويل كتير , و قوي كمان , كل يوم الصبح قبل ما آجي على المدرسة ببوسني من هون و من هون و أشار بإصبعه إلى وجنتيه , و لما أروح بسألني شو أخدت اليوم يا أحمد ؟ بفرجيه كتبي و دفاتري و بكون محضرلي اشي حلو .. كل يوم شكل , بعدين بنتغدى انا وياه و ماما دايما احنا بناكل مع بعض و باليل بحب أنام بحضنو لأنو بحكيلي حكايات حلوة و بغنيلي كمان ... يا الله يا مس شو صوتو حلو ... لو تسمعيه ؟ و بضل يغنيلي لحتى أغفى و تيجي ماما تاخدني على سريري.
يومها استشعرت السعادة بريقا يشع من عينه و سمعت أصداء حروفه أجراس رضى تقرع نفس كل من يسمعها وخلت لهاثه بين الجُمل ساعة تستعجل وقت المغادرة ليحظى بحضن والده.
أحمد فتى الرؤى اليتيمة , كان كل هذه الأعوام يقتات على أحلامه و يرتدي الخيال عباءة تحميه من برد الحاجة و الفقر , و يسد بالحديث المستمر عن والده نقصاً فتَّت قلبه فيخبىء كل يوم في حقيبته المدرسية بين طيَّات الكتب حكاية جديدة عن أبيه
أستحضرُ صورته عندما عدنا من اجازة احد الاعياد كيف اتى راكضا و اخرج من جيب بنطاله علبة فيها ساعة قائلا مس مس شايفة هاي هدية بابا الي بالعيد .
ـ يا سلام ما أحلاها بتجنن يا أحمد ...
تتقافز الأسئلة في راسي ... ترى كيف يقضي أعياده ... من يشتري له ثياب العيد في ذلك اليوم , ترى هل يخرج في نزهة كبقية الأطفال وان خرج فهل يكون سعيدا .؟
ما زالت كلماته التي غناها في حصة المواهب تطرق ذاكرتي
عيشي طابا بك يا بابا
بابا عيني يرضى عني
بابا يسأل عما نفعل
و يقبلنا لتفوقنا
هب ياربي رزقا لأبي
لم أر طفلا شديد التعلق بوالده مثله... لا أحد من الطلبة يتحدث عن ابيه مثلما يتحدث هو الان... استعيد كلماته ... أستشعر وقعها عليه ... حروفها تقطر بالشقاء ايقاعا يعزف كل الحان الفقر , معانٍ كمخرزٍ جرح روحه فيغني حزنا ..نقصا.. جوعا.. شوقا .
اقف الان قبالته هو و و والدته بعد ان استدعتني المديرة لمقابلتها ... أخذت يدي مصافحة قائلة انا والدة احمد...
ـ اهلا و سهلا.
ـ جئت لاصطحبه معي قبل انتهاء الدوام ان امكن.
ـ خير ان شاء الله
ـ اليوم موعد استلام كفالته من مركز الايتام و لازم يكون موجود...
دار راسي
رجعت خطوتين للوراء من هول المفاجئة.. عاد لذاكرتي كل ما كان يقوله عن والده ... التفتُّ اليه.. كان ينظر اليَّ بدفئ عينيه يريد ان يقول لم أكن أكذب فقط كنت أحلم
ناريمان ابو اسماعيل