الرأي الآخر وزبانية الرأي الواحد
من زار العراق في حقبة الحصار كان مخيرا بين التلفزيون الرسمي العراقي وتلفزيون الشباب الذي كان يديره عدي نجل صدام حسين. ولم تكن تشاهد رأيا آخر في أي منهما. وقد شاهدت على التلفزيون الرسمي احتفالات بافتتاح جدارية للسيد الرئيس في غير محافظة، ولا أنسى لقاء مطولا لأحد نحاتي تماثيل السيد الرئيس يتحدث عن ملامح وجهه وكيف تلهم الفنان وترتقي بإبداعه.
في تلفزيون الشباب كانت ميزة كبرى في البلد المحاصر، فلم يكن يعترف بحقوق الملكية الفكرية، وكنت تشاهد أحدث الأفلام والبرامج، وكان شعار "الشباب" ينتقل من أعلى الشاشة إلى أسفلها ويتغير حجمه بناء على موقع شعار (لوغو) البرنامج المستولى عليه.
وكان ممتعا أن تشاهد برنامج الاتجاه المعاكس على تلفزيون الشباب عندما يظهر فيه ضيف واحد يرد على نفسه، ولا يظهر الرأي الآخر المعاكس إلا في لقطة انتهاء البرنامج ووداع الضيفين.
وإنْ أنسَ لا أنسى الاستفتاء على الرئيس الراحل، في الأخير حصل على مائة في المائة، وفي الأول الذي أجري عام 1995 قال 800 شخص لا من بين ملايين العراق. في المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس لجنة الاستفتاء عزت الدوري سأل صحافي أجنبي بخبث عن رأي السيد النائب بهؤلاء الثمانمئة، كان يتوقع أن يقول إنه استفتاء وهناك رأي ورأي آخر، لكنه خيب أملنا وقال إننا سنعرف هؤلاء الخونة وسيلقون مصيرهم! والحمد لله على سرية الاستفتاء!
تلك أمة قد خلت ورحل النظام لتحل مكانه فوضى مدمرة جعلت الناس تترحم على جوره. لكن الأفكار الشمولية ما تزال سائدة. ولا يزال ينظر إلى الرأي الآخر باعتباره خيانة. ولك أن تقرأ ما تكتبه صحافة مصر "القومية" وما تبثه فضائياتها بحق المصريين الذين يعارضون الحصار الإجرامي على غزة، فهم ليسوا سوى عملاء لملالي طهران.
يستطيع زبانية الرأي الواحد أن يحتكروا وسائل الإعلام الرسمية المسماة دجلا "قومية" لكنهم لا يستطيعون سد الفضاء الذي اتسع أفقه لفضائيات ومواقع إلكترونية ومدونات. قلّ أن أقرأ صحيفة الأهرام وأقرأ افتراءات عبدالمنعم سعيد الذي تفوق على إبراهيم نافع في انغلاقه على الرأي الواحد، لكن يصلني على بريدي الإلكتروني كل ما يكتبه فهمي هويدي في الصحافة المصرية المستقلة والصحافة العربية. فضلا عن عشرات المدونين والكتاب المستقلين.
حتى عندما قيد الإنترنت ومنعت شبكة الجوال والصحون اللاقطة لم يستسلم المواطن العراقي لتلفزيون الشباب، ظل على صلة بالعالم ، وظل يعرف تماما ما يجري في بلده، وما فشل في العراق يفشل بالضرورة في مصر وفي أي بلد آخر لا يحترم الرأي الآخر.