الضّحك في آخر الليل
![الضّحك في آخر الليل الضّحك في آخر الليل](https://s3-eu-west-1.amazonaws.com/static.jbcgroup.com/amd/pictures/d79cf3a2ec3fd5ffaa1e44d23d6ed739.jpg)
لعلها بداية النهاية ... تلك اللحظة التي يلج بها البيت ليلقي بجسمه المتثاقل على أكوام المصاعب المتبعثرة هنا وهناك، تلقاه بجسدٍ خلا من كلّ شيء سوى الإرهاق ... تتمسّك بمقبض الباب متشوقة لرؤية ما تحمله يداه الّتي كتب لهما أن تتصلبا من قسوة الكفاح المتواصل.
وحيث تنبعث زفرات البؤس تتعالى مشاهد باهتة تخلو من الشّغف والعشق فها هو ذا وببرودة أثلجت إحساسه يلقي على مسامعها سؤالاً لا يبتغي منه الجواب ... إنّه السّؤال الذي يفضح ضعفاً يعصف بأعماقه: ألم تنامي بعد؟ ألا يحق لي أن أخترق بوابة المنزل المتهالك دونما تلك النّظرات !! لماذا تزيدين انكسارات موجعةً حبكها لي القدر المكتوب !! هل تنتظرين عودتي خشية على رجل يجثو إلى جانبك ساعة الرّقود أم بحثاً عن الطًعام والزّاد المفقود !!
يتجاذبان أطراف الحديث المرصّع بلوحات من اللوم المبطن والأمنيات المنشودة، لوحات تجعل من مملكتهما الزّوجيّة امتداداً لمنحدرات العمل والكدّ ... يفتقران إلى كل شيء: المال والالتقاء الرّوحي المشروع.
يشدّ جسده المتراخي لينتقل إلى مرتعه المضاء ببصيص نور ... بصيص يلوح بما ينمّ عن يأس مندسٍ بصميمه وعبراته فهو يشرد بأحلامه ويرتطم بأنقاض تكدسّت فوق بعضها غافية في سرير واحد .. فردوس صغير يجمعه مع أولاده الثّلاثة الذين ينعمون بدفء جسدي لم يدرك قط لذته ذاك الكادح وزوجته الحنون!!
ثم لا يلبث أن ينسج في يقظته أوهاماً سرعان ما تهوي به إلى منعطفات الواقع المرير ... فكلّ ما حوله ينفث على وجهه ويلات من التّقشف والتّقتير .. فهذا وقود قد نفذ ... وهذا فحم قد فُقد ... وذاك حلم قد اندثر ... وما بين هذا وذاك تتداعى الإحباطات في جرف سحيق.
وما بين ضباب الماضي ولذاته تنحسر قطرات الزّيت وتختفي حبّات البطاطا لتتحوّل الرّغبة في الحصول عليها إلى شهوة أكّالة مسيطرة أقوى من شهوة المدمن إلى عقاقير الموت والهلاك، لم تكن (البطاطا بالزّيت) إلاّ أمنية عابرة بدّدها ذاك العيش المفلس، وتلك الدّنيا الّتي باتت تسلب الصّعاليك أدنى رغبة لهم في الحياة !!!
وتتراكم اللحظات لتنزلق وتنحني بنا إلى دقات مبهجة معتمة ساكنة عاصفة إنّها (الثانية بعد منتصف الليل) حيث تَهِمّ الرّوح باستعراض شريط الذّكريات وتنبعث في الجسد قوة تتمايل لتنوء بحمل الصّعاب ... يبرمان نارا متأرجحة يتطاير لهيبها لينشر في الجو عبق الشّاي اللذيذ وتستوي في الأنف الرّائحة الزّكية العطرة ليغدو الشّاي شراب الخلود ... إنّها اللحظة التي يصل الدّواء إلى شفتيك ثم يسلب منهما دون اكتراث !!
ها هو بريقٌ بريءٌ آخر يتبدد .. لن يتمكن من الحصول على ذاك الكوب المزعوم لن يستلذ بطعمه بعد يوم شاق أوجعته فيه مشاهد السّكر المسفوح تحت أحذية المتعجرفين هنا وهناك ... هكذا ندت منه ضحكة ساحرة الأنغام، ماجنة اللحن، بالغة الأسى، داعبت روحه ولامست موقداً ينبض بالنّار المتأججة في فراغ لا نهائي يدور حول رائحة الشّاي المتراقصة ... ويتعالى صوت الضّحك المترامي في أطراف الليل ليخذل نفساً عارية لا تملك غير الدّموع.
ومن هنا فإنّ لجمالية العنوان بعداً ساحراً يحدث في النّفس شوقاً لمواجهة ملابسات القصّة وأحداثها إذ تراود المتلقي أفكاراً عديدة حين يتوقف على هذا المشهد المحفور في لوحة العنوان؛ إذ إنّ الضّحك آخر الليل يحملنا إلى أبعاد ومفارقات لم نكن نتوقع لها هكذا نهاية، فلا يضحك في جنبات الليل إلاّ العابثون الماجنون أو المستمتعون؛ وبذا يسجَل للكاتب نجاحاً متقناً حين يتمكّن من التّسلل إلى نفوس المتلقين وإرغامهم على متابعة العمل الأدبيّ لاكتشاف مضامينه ومفاجآته.
ولما كان الضّحك مقترناً بحالة شعوريّة معيّنة فقد تمكّن الكاتب وبخفة متناهية من أن يمتلك شعورنا ويحدث في داخلنا تعاطفاً شديداً مع هذا الكادح المنهزم حيث لا يمتلك في دنياه أي متعة زهيدة، حتى تلك الحالة الشعوريّة الفطرية تؤدي دوراً مناقضا يقوم على مفارقة ضديّة مؤلمة.
وعلى الرّغم من قتامة الحوار وتجرده من أيّ لون من ألوان الحميمة بين الزّوجين إلا أنّه جاء متناغماً كاشفاً لخلجات النّفس واعتلالاتها الّتي تهيم بشغف إلى ذكريات الطّفولة ولوحات الماضي.
ونجد في الشّخصيتين البارزتين سلسلة من التّفاعلات المتطوّرة في كلّ لحظة، إذ لا تغفلان ركناً من أركان محيطهما البائس إلاّ وتصفانه، وتمران مروراً عابراً على كلّ ما من شأنه أن يبعث في النّفس شغفاً وألفة؛ فنراهما ينظران إلى أولادهما الثّلاثة نظرة سريعة غير متأنية، متناسين أنّ تلك النّومة الهنيئة الدّافئة تعادل مال الوجود !!! كما وينظران إلى بعضهما نظرة ماديّة بحتة تنشل من الجسد كلّ الأحاسيس حيث يبحثان عن الزّيت والطّعام والشّاي والدّفء متغافلين عن أيّ تفاعل روحيّ ثمين.
وقد أجاد الكاتب (عبد الله عبد) في تصوير انفعالات الرّجل الكادح وأحلامه أيّما إجادة متسلحاَ بما يدور في الواقع الاجتماعيّ الذي قد يحكم على تلك الطّبقة العاملة بالسّقوط، وقد رسم أحاسيسا ً لامست عواطفنا ببراعة مشهودة تنمّ عن تمكّنه من التّصوير الفنيّ، وتعلن عن ثقافته المجتمعيّة المحتومة.
وبذا يمكننا أن نزعم وبقدر كبير من الارتياح أنّ هذا النّص الأدبي البسيط ما هو إلاّ نبض من نبضات حي فقير مهترئ ينزوي في شارع من شوارع إحدى عواصمنا الشّقيقة اللصيقة، وهو متلازمة أدبيّة متكاملة تحدث الأثر المقصود في نفس أي قارئ متمكّن.