ضد الشعر ودفاعا عن التاريخ… النشيد الوطني الجزائري من قسمًا إلى قصمًا
المدينة نيوز - لقد عرف الشعر العربي ظاهرة التنقيح والتبديل منذ نشأته بعصور ما قبل الإسلام. والنقاد والمؤرخون جميعهم متفقون في ذلك أيما اتفاق. وسوف نفصل في موضوع قابلية النص الشعري للتنقيح من جوانب عدة كالجانب التاريخي والسياسي خصوصاً.
نعم، يوضحُ التاريخ دائما أن الشعر كان قابلاً للتغيير، فمنذ نشأ هذا الأخير، ونصه متاحٌ للسامع والقارئ والناقد لينتقده أو ينقحه أو يغير فيه. وقد حدث للنابغة في العصر الجاهلي حسب رواية عمرو بن العلاء أن غير شعره استجابةً لمحبيه وسامعيه/ هامش: (انظر المرزباني. الموشح. ج1 تحقيق علي محمد البجاوي.
دط 1965. دار النهضة. مصر. ص 47.). كما استجاب حسان بن ثابت لدعوة رسول الله في تغيير بيته الشعري فغيرهُ. ولا نعدمُ أمثلةً في العصور المتقدمة، كالعصر الأموي والعباسي والعصر الحديث أيضا، فالمغنون غالبا ما كانوا يغيرون المفردات تجنبا لإثارة حساسية السامع أو إضفاء صبغة شعريةٍ حسنةٍ على النص.
فأم كلثوم مثلاً غيرت في مفردات قصيدة عمر الخيام التي نقلها إلى العربية الشاعر أحمد رامي، وكاظم الساهر بدّل في مفردات قصائد نزار قباني توافقاً مع رغبته ورغبة سامعيه، والأمثلة في ذلك كثيرة جدا.
والنشيد الوطني في عمومه خضع مثل الشعر وفي بلدان مختلفة لتغييرات كثيرة، ولا نبتعد كثيرا حتى نجد أن النشيد التونسي مزيج بين قصيدتين إحداهما ما قام بتأليفه مصطفى صادق الرافعي، قبل أن يضاف البيتان الشعريان لأبي القاسم الشابي في مطلعه. فالتغيير إذاً تقليدٌ شعري يسمح لأي كان بإعادة صياغة النص بما يوافق تقاليده وأعرافه.
إن قصيدة مفدي زكريا لا تنأى عن هذا العرف التقليدي برمته، لاسيما أنها صارت نشيداً يُغنى.
فلقد خضعت هي أيضا في أكثر من مناسبة للتغيير والتنقيح، وسوف نقدم أدلة بينة تؤكد بشكل لا مراء فيه قابلية تغيير النشيد كليا أو في بعض أجزائه.
ففي سنة 1935 مثلاً، تبنى الوطنيون الجزائريون نشيداً وطنيا، لاسيما ضمن إطار حركة حزب الشعب.. ولقد تم استبداله بقصيدة قسماً، بعد أن نظمها مفدي زكريا سنة 1956 بسجن بربروس.
حسب شهادات بعض المؤرخين الجزائريين، فإن البيت الحالي الوارد في نشيد قسما: «لم يكن يصغى لنا لما نطقنا»، وهو شطرٌ تتضح فيه صيغة المبني للمجهول، إنما كان في الأصل بصيغة مبنيةٍ للمعلوم.
ووردت هذه الصيغة على الشكل التالي: «لم تكن فرنسا تصغي لنا».
ولقد كشف الأمين بشيشي، وزير الاتصال السابق بالجزائر مسألة تغيير الشطر عندما لمح فيه إلى علاقة سلطات الاستعمار الفرنسي بهذا الموضوع.
من بين ما يدفعنا إلى الاعتقاد بقابلية تغيير النشيد هو نية الرئيس الراحل الهواري بومدين في استبدال نشيد مفدي زكريا بنشيد آخر في ظل النزاع البارد الذي تأجج في لحظة ما بينهما. ولقد تم تنظيم مسابقة أحسن نشيد وطني سنة 1966 بإشراف مستشاره المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم.. إلا أن النشيد الفائز لم يكن إلا لشاعر الثورة، وهو ما دفعه إلى قول جملته المشهورة : «أتركوه.. أتركوا النشيد الأول».
هذه الحادثة تلمح من بعيد وقريبٍ إلى قابلية التغيير أيضا.
من خلال هذه الملاحظات، نستطيع الوصول إلى نتيجةٍ مفادها أن قابلية النشيد الوطني للتغيير كانت ممكنة في أكثر من مرحلة، بل استجابت أحيانا إلى ضغوط من هم موضوع هجائها ومحور نظمها وصلب كتابتها.
إلا إنني أقترح من جانبي تغييرا تنص عليه المادة الخامسة من الدستور ذاته، التي تحيل إلى إمكانية تغيير النشيد والعلم قانونياً، بل إنه تغييرٌ ينحو منحى القسم الجمهوري الداعي إلى احترام الدين الإسلامي وتمجيده. يعتمد هذا التغيير الذي أقترحه على استبدال مفردة قسماً بمفردة قصماً، حيث يدرك القارئ والناطق معاً أن التغيير الذي يطرأ على الكلمة إنما يكون على مستوى صوتي س/ص اللذين يسميهما اللسانيون بالصوت الصفيري المهموس. وهو تغييرٌ نحافظ من خلاله على البنية الصوتية لمطلع النشيد الوطني، من دون أن يكون لذلك وقع صادم لمن اعتاد على التغني به.
ونجد شبيه هذا الاستبدال الصوتي في أكثر من موضع من القراءات لأكثر النصوص الإسلامية تقديسا. فالكثير من قراء القرآن يـجـيز القراءة بالسين والصاد للجذر اللغوي (بصط : يبصط وبصطةٌ) وهما في الأصل كلمتان تنطقان سينا من الجذر اللغوي (بسط: يبسط وبسطة) كما في رواية حفص في الآيتين التاليتين: (منْ ذا الذي يُقْرضُ الله قرْضًا حسنًا فيُضاعفهُ لهُ أضْعافًا كثيرةً واللهُ يقْبضُ ويبْصُطُ وإليْه تُرْجعُون) (245) البقرة.
غير أن وجه الشبه في اختلاف هذه القراءات لا يكمن في الصوت بقدر ما يكمن في الدلالة، فعلى الرغم من الاختلاف الصوتي الكائن خلف البسطة والبصطة، إلا أن دلالاتهما واحدة. بينما ما نقترحه بخصوص قسماً، فإن الاختلاف بين كلمتي قسماً وقصماً قائمٌ على المستوى الصوتي والدلالي معاً. فقسمًا التي تفيد القسم تتحول إلى القصم الذي يفيد معنى كسر ظهر الأعداء /هامش: (يأتي مصدرها على قصمٍ بتحريك الفتحة، فيقال رمح قصمٌ: منكسر، (…) وقد قصم. وقصمتْ سنه قصماً وهي قصْماء: انشقت عرْضاً ورجل أقْصمُ الثنية إذا كان منكسرها من النصف بين القصم. وكل شيء كسرْته فقد قصمْته. انظر باب قصم في لسان العرب لابن منظور.) وقد جاء في تفسير الزجاج لقوله تعإلى: «وكمْ قصمْنا منْ قرْية كانتْ ظالمة» قوله: كم أهلكنا وأذهبنا من قريةٍ.
يمكن إذا وضعنا مفردة قصما مكان قسماً في النشيد الجزائري أن يتحول المعنى من قسم بالأشياء إلى ما مفاده أن الشعب الجزائري قصم بالجبال والبنود والدماء ظهر الأعداء قصمًا، أي أهلك الأعداء وأذهبهم وكسر شوكتهم، كما هو في التعريف اللغوي للمعجميين جميعهم بمن فيهم ابن منظور.
ولقد صغنا هذا التغيير الصوتي للسين إلى الصاد بحثا لتغيير المعنى على ما ذهب إليه الفرزدق مع سليمان بن عبد الملك في بيته المشهور،عندما قلب عين فعل ضاع إلى همزة فصارت ضاء، فتغير المعنى.
فتحول معنى البيت الشعري كله من قوله: لقد ضاع شعري على بابكم / كما ضاع در على خالصة إلى لقد ضاء شعري على بابكم / كما ضاء در على خالصة. بهذه الطريقة، نكون قد تجنبنا وجنبنا الشعب الوقوع في حفرة الشرك وفي تناقض دستوري وانتقلنا إلى دلالةٍ أكثر جمالاً وانسجاماً مع السياق العام للقصيدة شعريا وسياسيا.