انطلاقة انتفاضة شعب يسبق قيادته
قبل 27 عاماً، يوم 8/12/1987 دهست شاحنة إسرائيلية ستة عمال فلسطينيون من جباليا عند محطة وقود في أسدود، فاستشهد أربعة وجرح اثنان .. اﻻذاعة الإسرائيلية اذاعت الخبر على أنه حادث سير.. إﻻ أن الواقع بين قيام سائق الشاحنة بالإنتقام ﻻبنه، الذي كان قد طعن قبل يومين من الحادثة حتى الموت، في سوق غزة.
وفي اليوم التالي قامت الحشود الفلسطينية الغاضبة اثناء جنازة الشهداء بإلقاء الحجارة على موقع للجيش الإسرائيلي في مخيم جباليا، فقام جنود الإحتلال بإطلاق النار على المواطنين. وأمام ما تعرض له من وابل الحجارة وزجاجات حارقة (المولوتوف) طلب الجيش الإسرائيلي الدعم.. وهذه المسيرة ما شكلت أول شرارة للانتفاضة، التي وجدت صدى لها اليوم التالي في مخيم بلاطة في نابلس.
السلطات الإسرائيلية، ومنظمة التحرير الفلسطينية لم تدركا أنهما أمام هبة جماهيرية عارمة "انتفاضة"، التي بدأت بعفوية وتفاعل جماهيري واسع.. إﻻ أن الكادر الوطني في اﻻرض المحتلة تمكن من التقاطها، وتحويلها من حركة عفوية الى حركة ممنهجة، انتشرت في جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غـزة، انتفاضة تفجرت في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، تدار بقيادة وطنية موحدة للانتفاضة، أدت إلى إلتحام الناس صفاً قوياً بكل مكوناتهم وأطيافهم، رجالاً ونساءً رغم إختلاف الأفكار والمبادئ والأساليب بين أطياف وتنظيمات الشعب الفلسطيني، فقد أجمعوا على هدف واحد، هو مواجهة المحتل الإسرائيلي، وسياسته العنصرية، ودحره عن الأرض الفلسطينية، ونيل الحرية والعودة والاستقلال، جماهير أعلنت أن لا عودة إلى الوراء، ولا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة.
وسائل الإعلام العالمية أدركت أهمية وقوة ما يحدث، وبدأ العالم يتابع عبر شاشات التلفاز مشاهد العصيان الشعبي الفلسطيني السلمي، ويشاهد مدى الإجرام الصهيوني بحقّ الأطفال الفلسطينيين رماة الحجارة أمام الترسانة العسكرية الإسرائيلية، وجيشه المدجج بكل وسائل القتل والدمار والإرهاب. لقد صُعق العالم من هول المشاهد التي بثتها شاشات التلفزة العالمية، فرسخت في ذهنه صورة الطفل الفلسطيني الذي يحمل بيده حجرا وهو يواجه به دبابة اسرائيلية، وتجسد لدى المشاهدين وحشية الجيش الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، وبطشه، وسياسة تكسير العظام التي أقرها رئيس وزراء الإحتلال آنذاك إسحاق رابين. وانتشرت الكوفية الفلسطينية في المجتمع الغربي دلالة على التعاطف والمساندة للفلسطينيين، وأصبحت رمزا للثورة.
ورغم كل ممارسات جنود الإحتلال، تصاعدت وتيرة الانتفاضة الشعبية، وبدأ الفلسطينييون يبتدعون أساليب جديدة في المواجهة، ونهجاً نضالياً جديدا قوامه الحجر والمقلاع، والإضرابات التجارية الشاملة، والاعتصامات والتظاهرات اليومية، إضافة إلى أجمل عوامل التكافل الإجتماعي بين الناس، ولم يخيفهم ممارساته الإرهابية، بل زادههم إصراراً وتمسكاً بالثوابت الفلسطينية وحقوقهم المشروعة، والتي كفلتها لهم الشرعية الدولية.
لقد أعادت الانتفاضة الزخم الشعبي لمسيرة النضال الوطني الفلسطيني ضد الإحتلال الإسرائيلي، وإعادت الإعتبار للقضية الفلسطينية العادلة، رغم محاولات التهميش والتجاهل والطمس، من قبل القوى الإمبريالية العالمية المهيمنة على القرار الدولي، وبدعم وتآمر أنظمة عربية خائنة.
كما وانتصرت الإنتفاضة الفلسطينية وأربكت الاحتلال الإسرائيلي، وأسقطت مشاريع إدارته العسكرية التأمرية ضد الشعب الفلسطيني أمثال روابط القرى، ومحاولات خلق قيادات في الضفة الغربية قطاع غزة بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية، انتصرت رغم ممارسات تلك الإدارة العنصرية، وامعانها في إرهاب الشعب، ومحاربته في حياته اليومية، وتقييد حرياته، والإستيلاء على أرضه، وهدم منازله. وهذا ما يدعوا الشعوب والآنظمة العربية والإسلامية، القيام بواجبها، نصرة للقضية والدفاع عنها وعن المقدسات الإسلامية والمسيحية، خصوصاً وأنه ثبت للجميع فشل العملية السلمية واتفاقيات السلام مع سلطات الإحتلال الإسرائيلي.
ورغم أن العلم الفلسطيني بعد ربع قرن من الانتفاضة الأولى، يرفرف في أروقة الأمم المتحدة باعتراف مائة وثمانية وثلاثين دولة، أي أكثر من ثلثي سكان الكرة الأرضية، يعترفون بالشعب الفلسطيني وبهويته المستقلة، ووطنه (فلسطين)، مطلوب من السلطة الفلسطينية ومختلف الفصائل والحركات تقويم وضعها، ومعالجة ما سببه الإنقسام.. لتستمر المقاومة المشروعة حتى تحقيق الاستقلال التام، وقبول فلسطين عضواً كاملاً فاعلاً، كبقية دول العالم، الشعب الفلسطيني الذي أثبت أنه يسبق قيادته، يميل للمقاومة ولمواجهة ما تمارسه سلطات الإحتلال في القدس والخليل، ومختلف المناطق، والأحداث تشير إلى أن الضفة الغربية ستكون ساحة لمواجهة أكيدة، وأن إنتفاضة جديدة قد تحدث.