الاستغفال على الطريقة الأمريكية
يحتاج المرء إلى قدر كبير من الصبر والتجلد لكي يحتمل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وهو يقول الجمعة الماضي إن المفاوضات بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية لن تستأنف إلا بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية. إن حديث كيري هذا يعكس استغفالاً وتحقيراً للذهنية والعقلية الفلسطينية والعربية على حد سواء. حسناً،ماذا سيحدث بعد الانتخابات ولم يحدث قبلها، أم أن إجراء المفاوضات بحد ذاته يعتبر هدفاً بحد ذاته. لقد تم تنظيم انتخابات في «إسرائيل» إحدى عشرة مرة منذ التوقيع على أوسلو وتعاقبت على حكم «إسرائيل» إحدى عشرة حكومة، ومع ذلك لم نزدد إلا بعداً عن السلام. يدرك كيري قبل غيره أن اليمين سيواصل تولي مقاليد الأمور في تل أبيب بعد الانتخابات، والمواقف التي تعرضها الأحزاب الصهيونية لا يمكن أن تلبي الحد الأدنى المقبول فلسطينياً. ومن الواضح أن تصريح كيري يمثل في الواقع مزيداً من الضغوط على قيادة السلطة لزجرها عن مواصلة إجراءات الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، ومنعها من معاودة تقديم طلب تمرير مشروع قرار في مجلس الأمن ينص عل انهاء الاحتلال. وما تقوم به الإدارة الأمريكية ممثلة بكيري، يقوم به الكونغرس بشكل أكثر فظاظة.إن أكثر الخطوات جدية التي تراهن «إسرائيل» على تأثيراتها في ردع الفلسطينيين على استنفاذ الفرص التي يمنحها الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، تتمثل في مشاريع القوانين التي يعكف أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس على سنها لمعاقبة السلطة الفلسطينية.
ويتعلق أحد مشاريع القوانين بالزام الإدارة الأمريكية بوقف المساعدات المالية للسلطة، فيما يتعلق آخر بإغلاق الممثلية الفلسطينية في واشنطن. فعلى حسابه على الفيسبوك،أشاد وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان كثيراً بتوجهات الكونغرس واعتبرها أنها تخدم في الأساس المصلحة الأمريكية. اللافت أن مسوغات فرض العقوبات الأمريكية على السلطة الفلسطينية، كما تراها تل أبيب، كثيرة. فحسب وزير الاستخبارات يوفال شطاينتس،أكثر الوزراء الإسرائيليين ارتباطاً بالكونغرس، فإن التزام السلطة الفلسطنيية باتفاق المصالحة مع حركة حماس ولو نظرياً يستدعي فرض عقوبات على السلطة الفلسطينية، على اعتبار أن السلطة اختارت التعاون مع منظمة «إرهابية» حسب القانون الأمريكي. وإلى جانب الإدارة والكونغرس، برز دور القضاء الأمريكي في ممارسة الضغوط على السلطة الفلسطينية لزجرها عن مواصلة خطوات الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية. فبعد وقت قصير من قيام الممثلين الفلسطينيين بتقدم طلب للانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، وافقت المحكمة الفيدرالية في نيويورك على النظر في دعوى قدمها وكلاء عن عائلات إسرائيلية قتل أفرادها في هجمات للمقاومة الفلسطينية أثناء اندلاع انتفاضة الأقصى بمطالبة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بدفع مليار دولار لأنها قامت بتمويل عمليات نفذتها «كتائب شهداء الأقصى»،الجناح العسكري لحركة «فتح»،خلال انتفاضة الأقصى. ويزعم وكلاء هذه العائلات أن العمليات التي نفذت في الفترة الفاصلة بين عامي 2001 و2004 قد أسفرت عن مقتل 33 جندياً ومستوطناً وجرح 450 آخرين، من أبناء هذه العائلات وأقاربها.
ويزعم ممثلو العائلات بأن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لعبتا دوراً في تنفيذ هذه العمليات، من خلال قيامها بتمويل أنشطة «الكتائب». وحسب منطق ممثلي العائلات، فإن «كتائب شهداء الأقصى»،المسؤولة عن تنفيذ هذه العمليات قد تلقت أيضاً مساعدات لوجستية من السلطة الفلسطينية، مع العلم أن «كتائب شهداء الأقصى» تعتبر «تشكيلاً إرهابياً» حسب القانون الأمريكي. المفارقة أن المحكمة الأمريكية اعتمدت في قبولها البحث في الدعوة على شهادة أدلى بها العقيد نيك كوفمان،الذي شغل في الماضي منصب رئيس أكبر محكمة عسكرية إسرائيلية، ومقرها سجن «عوفر»،الذي يقع للغرب من مدينة رام الله، علاوة على أنه كان مساعداً للمدعي العسكري العام في تل أبيب. وقد أقنع كوفمان رئيس المحكمة الأمريكية القاضي جورج دانيلز بأنه بالإمكان الربط بين كل من منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والعمليات التي نفذتها «كتائب الأقصى» خلال انتفاضة الأقصى.
في الوقت ذاته، تراهن «إسرائيل» على توظيف الجهاز القضائي الأمريكي في محاصرة المرافق المصرفية الفلسطينية من خلال ربطها بتمويل أنشطة «عدائية» قامت بها حركات فلسطينية. وهناك ارتياح في «إسرائيل» بعد «تمكن» عضو في هيئة المحلفين في محكمة أمريكية تنظر في قضية ضد البنك العربي، من تقديم «دليل» على أن هذا البنك تجاوز القوانين الأمريكية من خلال تمويل أنشطة لحركة «حماس» التي تعتبر حركة «إرهابية» حسب القانون الأمريكي. وفي هذه الحالة فقد اعتمدت المحكمة أيضاً على شهادات أدلى بها ضباط في جهاز القضاء العسكري الإسرائيلي.
إن الانحياز الأمريكي الأعمى ل»إسرائيل» حال من طرح سؤال مهم:لماذا أعاق الجيش الإسرائيلي قضية رفعت ضد بنك «بنك أوف تشاينا»،الذي تعود ملكيته للحكومة الصينية. وتقوم القضية على اتهام البنك بدعم حركة «حماس»من خلال استخدامه في نقل أموال لتنفيذ عمليات نفذتها حماس في الضفة الغربية، واسفرت عن مقتل عدد كبير من اليهود الذين يحملون الجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية. فقد رفض نتنياهو السماح لقادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بالإدلاء بإفادات أمام المحكمة لتأكيد ما تضمنته الدعوى، مع العلم أنه بدون هذه الإفادات فأن المحكمة ليس بوسعها الاستمرار في النظر في القضية. لقد رفض نتنياهو أن يشهد الجنرالات الإسرائيليين ضد البنك الحكومي الصيني خشية إغضاب حكومة بكين، مما قد يؤثر سلباً على العلاقات الثنائية ذات الطابع الإستراتيجي بين الجانبين.
لو كان كيري منصفاً لما شغله موضوع الانتخابات الإسرائيلية بقدر ما شغله الدور الأمريكي في المفاوضات.
(السبيل 2015-01-26)