معاذ...صقرٌ حلّقَ عالياً
ليسَ بيننا مَن لَم يتجرع مرار الفِراق...فِراق الأحبةِ يا معاذ.
ولعلَ الكلمات المتحشرجة في حناجرنا تأبى إلا أن تنحني أمامَ رباطة الجأشِ وهيبة الصابرِ المُحتسب الناطق بأن لا إله إلا الله محمداً رسول الله.
ولعلنا نستظلُ بحروفنا يا معاذ نداري بها دموعنا..ولكن الحروف حتماً ستشي بما تئن به القلوب تحت ثقل وطأة الفقد....وكأني بالحروف تُقَبِّل وجه الورقة الأبيض وكأني بصرير القلم معزوفة عشق أبدي أخذت من الدمع أكثر ما أخذت من طيب اللقاء ولم الشَمل.ما نتألّمُ لأجلكَ يا معاذ....وهل تنفعُكَ آلامُنا؟!...إنما نتألّمُ على حالِنا بعد فِراقك فأنتَ الملاذ والملجأ ولكلٍ من اسمهِ نصيب...يؤلمنا غيابكَ عن عُيونِ مَن قَرَنَ الله عبادته برضاهم...يؤلمنا تَرككَ لِمن كنتَ لَهم عضيداً وسندا...يؤلمنا بُعدكَ عن من كانت سكناً لقلبكَ وكنتَ لقلبِها سَكنا...
أتدري يا معاذ...
يؤلمنا فقدان الأمل بقدر ما يبث فينا حضورهُ ومرافقته لقلوبنا شجوناً باللقاء بعد فِراقٍ أرّق عيوننا وَقَضَّ مضاجعنا...فإن غاب ذاك الأمل عَرفنا معنى الضيق وسَرحنا نتأملّ اللون الأسود...نتأمله لوحة حزنٍ رَسمها ضيق الأفقْ...وسطحية عقولٍ موغلة في الحقد والسادية...تسد أمامك وأمام الإنسانية كل الطرقْ.
يؤلمنا مكانكَ هناك ذاكَ الذي يتسِعُ مُمتداً ومُمتداً ليتجاوزَ حدوداً صنعتها الفرقة بين العرب...بين الأشقاءْ....ويتماهى ارتفاعاً معتلياً ومعتلياً يُطاولُ في عِلّوهِ عنان السماءْ...مكانكَ الذي ما زالَ فيه هديرُ طائرتكَ يقسمُ أنكَ عَزمتَ على بث الرعبِ ِفي صفوفِ الأشقياءْ...وأنكَ تَجَشّمْتَ عناءً ما بعده عناءْ...لا لانت لكَ فيه قناة ولا ساومتَ..دَيْدَنكَ في ذلك دَيدنُ من أنت من صُلبهم..كبارٌ هُمُ كابراً عن كابرٍ ورفعة مجدٍ موسومة لهم..كن واثقا أنه ما نالها يوماً إلا الشُرفاء.
وكم من صقرٍ وقع في الأسر يا معاذ..وكم من جارحٍ أحيط بالحديد قَفصا...ما قلّلَ ذلكَ مِن كونهِ صَقراً ولا انتقصا.
أجزم أنكَ منذُ نعومةِ أظفارِك وأنتَ تجيبُ كل من يسألك:"شو بدك تصير بس تكبر؟"بقولكَ :"بدي أصير طيار"...
وقد صرتَ طياراً وما هذه صدفة إنما هي الأقدارُ عندما تختارُ الرجال وتُعِدّهُم لمهمات هم أهلٌ لها.
وأجزمُ أن أمكَ تباهت أمام جاراتها وجليساتها بأن فلذة كبدها صقر يفرد جناحيه من أقصى الوطن الى أقصاه...
وأجزمُ أن مَن شاركتكَ الشهور الخمسة أنيساً لها وخليلا كانت مأخوذة بلمعانٍ وجَدَتْهُ في عينيكَ...ومتيمة بتلك النظرات التي توحي بالدقة.. وهائمة بجبينك الذي توشحه لك بالغار في كل صباح..ومحافظة على زيٍ لا يليق إلا بقامةٍ ممشوقةٍ كقامتك..بل أجزمُ أنها كانت تَطربُ لحديثكَ الذي ينهل من عقلية متميزة تجاوزت كل اختبارات الذكاء وبجدارة..يوم قررت الإلتحاق بسرب الصقور الكاسرة..وأجزمُ أنها امتلأت شعوراً بالغبطة والتيه عندما أخْبَرتها ذات يوم أن ثاني أصعب مهنة بعد ارتياد الفضاء هي مهنة قيادة طائرة مقاتلة.
وأجزم أنك يوماً ما قد مررتَ من فوقِ رؤوسِنا...تُظللنا بجناحيكَ وفي خاطركَ تردد كلمات
طارت طيارة فوق المعسكرْ
نشمي ع جبينه بوريته عَنقرْ
وقلبي هالعاشق من شوقه دقّرْ
ما خلّى دمعة تعتب عَليّا
طارت طيارة من فوق السكةْ
ذبحني برمشه وع السيف اتركى
لظل اغني واشبكلو الدبكةْ
بلكي حبيبي يشبك بيديّا
أجزم أنك في أسركَ كنتَ راضياً بقدركَ وكنتَ صادقا ًفيما عاهدتَ الله عليه تنتظرُ وما بدّلتْ...وأجزمُ أنكَ بنظراتكَ ما كنتَ ترى ناراً بل ترى وعدَ الله ووعدُ الله حق فلعلك من ريحِ الجنةِ حينها قد استنشقتْ...كما هم أسلافك جعفر وزيد و عبد الله..أسلافك الذين جاورت..ولعل الحور العين سعيدة بك الآن...تحفكَ أينما ذهبتْ...فهنيئاً لكَ..هنيئاً لكَ ما كَسَبْتْ.
ندري أنك بالأمس القريب كُنتَ طالباً في كليتكَ الحربية على مقاعِدِ الدرسْ....فكيف غدوت مرتقياً أعلى المراتب...تُزفُّ عريساً...وأيُّ عُرسْ...كيف غدوتَ لنا معلماً في نظراتك...في صمودك..في أن تَغْرِسَ فينا الفرق بين حب الحياة وقبول الأجل وترويض النَّفْسْ...يا إلهي ما أثمن ما علمتنا يا معاذ....ما أثمن ذاكَ الغَرسْ.