الربا ببساطة

1. أحكام الشريعة الإسلامية في التحريم تتناغم وتتضافر فيما بينها لتحقيق العدل في المعاملات المالية، فضلاً عن المعاملات الاجتماعية، ويأتي تحريم الربا في مقدمة العناوين التي تقررها الشريعة لتحقيق العدل المقصود، فتجد في جانب المعاملات المالية توسيع مفهوم الربا ليتجاوز أبوابه المعهودة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «غبن المسترسل ربا»، كما تجد في جانب المعاملات الاجتماعية قوله صلى الله عليه وسلم «إن أربا الربا استطالة المرء في عرض أخيه».
2. فالربا من أصول المحرمات في المعاملات المالية، وقد عرفه عدد من الفقهاء بأنه البدل الخالي عن العوض، أو الزيادة التي لا يقابلها عوض، ومعنى ذلك أن يحصل أحد المتبادلين على شيء دون أن يحصل الطرف الآخر على ما يقابله. وإذا دققنا النظر لوجدنا أن هذا ينطبق على الظلم بشتى أشكاله من السرقة والرشوة والغصب والتغرير والغبن المحرم، كما ينطبق على الغرر الذي يؤول إلى خسارة أحد الطرفين في مواجهة الطرف الآخر، فضلاً عن كونه ينطبق على أبواب الربا كاملة.
2. وكما تتضافر أحكام التحريم بصفة عامة لإقرار العدل، فإن أحكام تحريم الربا تتضافر لسد كل طريق موصل إلى الربا بشكل مباشر وغير مباشر، وقد استقرت أحكام الفقه الإسلامي المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة إلى إقرار التحريم في أربعة أنواع من الربا؛ اثنين منهما حرما على نحو مقصود فيهما وهما من نوع المحرم لذاته، والاثنين الآخرين كان تحريمها لما يترتب عليهما من التوصل إلى النوعين السابقين وهما من نوع المحرم لغيره، أو تحريم الوسائل، أو من باب سد الذرائع. وبالتالي قد تظهر علة التحريم وحكمته في النوعين الأولين، وقد تخفى في النوعين الأخيرين.
3. أما النوع الأول من الأولين فهو اشتراط الزيادة على القرض ابتداء، ويسمى ربا القرض، وهو القرض بالفائدة المصرفية المعروف في حال التمويل، وينطبق على الودائع الآجلة بفائدة لدى البنوك الربوية أيضًا. وأما النوع الثاني فهو اشتراط الزيادة على الدين مقابل تأجيل سداده عن تاريخ استحقاقه، وهو المشهور في الجاهلية بمسألة «أتقضي أم تربي»، أي أن الدائن يخير المدين بين القضاء والوفاء أو التأجيل مع الإرباء. وينطبق على الدين الناشئ عن قرض حسن، أو عن الدين الناشئ عن شراء سلعة أو منفعة بالأجل؛ فتأجيله بعد استحقاقه مقابل الزيادة من الربا المحرم. ويسمى هذا النوع الثاني ربا التأجيل. ومنه ربا بطاقات الائتمان التي تسمح بتدوير جزء من المستحق مقابل فائدة في نهاية كل شهر.
4. وكلا النوعين يطلق عليهما ربا الدين، أو ربا النسيئة، وتعني النسيئة التأخير وهو حاصل في النوعين. ويسمى هذان النوعان الربا القرآني، لورود تحريمهما في القرآن الكريم بقوله تعالى «وأحل الله البيع وحرم الربا» البقرة 275، وقوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا» البقرة 278. ويسمى هذا أيضًا الربا الجلي أو الواضح لوضوح علة التحريم وحكمته بل إن التعليل يمكن أن يفهم من نص الآتية: «وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون» البقرة 279، مما يعني أن الربا لا ينفك عن ظلم. ويجري ربا القرض في أي مال يصلح للإقراض كالنقود، أو القماش، أو الحبوب والسوائل والخامات بشتى أنواعها، ونحو ذلك مما يسمى أموالأ مثلية، استهلاكية، والمثلية التي تشبه بعضها بعضًا ويقوم بعضها مقام بعض في التعويض، والاستهلاكية التي تستهلك أعيانها عند الانتفاع بها.
4. أما النوعان الأخيران فهما ربا الفضل وربا النَّسأ، والفضل يعني الزيادة، والنَّسأ يعني التأخير ويقال النَّساء أيضًا بفتح النون، وقد استنبط تحريمهما من السنة ولذلك يطلق عليهما ربا السنة، كما يطلق عليهما الربا الخفي، لخفاء علة التحريم وعلته، ويطلق عليهما أيضًا ربا البيوع لأنهما يجريان في بيوعات مخصوصة، وليس في القروض والديون التي يعود التأجيل فيها إلى التبرع والمعروف. فالقرض باب من أبواب الصدقة فلا يصلح بفائدة، وكذلك تأجيل الدين عن تاريخ استحقاقه بدون زيادة أو فائدة هو واجب شرعي في حال كان المدين معسرًا بل وورد الحث على التصدق بإبراء المدين المعسر من الدين وفيه ورد قوله تعالى: «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خيرٌ لكم» البقرة 280.
5. وأصل التحريم في ربا الفضل وربا النسأ هو حديث الأصناف الستة المشهور «الذهب الذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح والتمر بالتمر مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإن اختلفت هذه الأصناق فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد». وقد فهم الفقهاء أن الأصناف الستة مجموعتان، الأولى مجموعة الذهب والفضة، والثانية مجموعة الأقوات الضرورية. وللتبادل بين الأصناف الستة ثلاث حالات: واحدة منها مستبعدة ولا تندرج في أحكام الربا وهي مبادلة الذهب أو الفضة بأي من الأصناف الأربعة الأخرى، لأنها تندرج من البيوع المباحة والتي يجوز فيها تأجيل الثمن وهو المسمى بالبيع الآجل وقد مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة بدين عند يهودي، أو تأجيل السلعة وهو المسمى السَّلم بضوابطه. ويمكن أن نطلق عليها حالة المبادلة بين بعيدين.
6. أما الحالتان الأخريان؛ فالأولى منهما تبادل الصنف أو الجنس بمثله كالذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر إلخ وتسمى حالة اتحاد الصنف أو الجنس أو تبادل المثماثلين، وضوابطها في الحديث واضحة وهي التساوي في الكيل أو الوزن بين الكميات المتبادلة، مع عدم اعتبار الجودة، والتقابض يداً بيد في مجلس العقد. والحالة الثانية منهما تبادل الصنف أو الجنس بغير جنسه على مستوى كل مجموعة مستقلة كالذهب بالفضة، أو الشعير بالبر، أو البر بالملح، أو الشعير بالتمر، وتسمى حالة اختلاف الجنس أو اختلاف الصنف أو المبادلة بين قريبين. وضوابها في الحديث التقابض في مجلس العقد فقط، وقد أهمل الحديث شرط التساوي، فيجوز مبادلة 10 كغ فضة بكيلوغرام من الذهب، أو 10 كغ من القمح بعشرين كيلوغرام من الشعير، وهكذا بشرط التقابض.
7.إن الإخلال بتحقيق شرط التساوي في الكميات -فقط مع الحفاظ على التقابض في مجلس العقد- ينجم عنه «ربا الفضل»، وهو الذي نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحريمه تطبيقياً وقدم بديل الخروج منه. وذلك عندما مر على بائع تمر فقال له: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا يا رسول، وإنما نبتاع (نشتري) الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: أوه، لا تفعل عين الربا، ولكن بع الجمع (التمر الرديء) بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا (التمر الجيد). ومن الواضح أن ربا الفضل لا يجري إلا في حالة اتحاد الصنف المذكورة، لأن شرط التساوي مقتصر عليها.
8. وإن الإخلال بتحقيق شرط التقابض –فقط مع الحفاظ على شرط التساوي في الكميات- بتأخير تسلم أحد البدلين أو كليهما عن مجلس العقد؛ فإن مجرد التأخير دون زيادة مقابل هذا التأخير ربا، ويسمى ربا النسأ. وسبب تحريم هذين النوعين مشكل أو غامض، لأنهما كما ذكر في بداية المقال لم يحرما لذاتهما وإنما لسد الذريعة والطريق إلى ربا الدين وهو الربا الجلي الواضح سبب تحريمه كما ذكر أعلاه. فإذا عرف هذا زال الإشكال فلا يظهر في المعاملة ذاتها سبب للتحريم وإنما لما يترتب عليها من التوصل إلى ربا الدين. ولا يخفى أن المعاملة الحلال تنقلب حراًما إذا أدت إلى محرم سدًا للذريعة، ومنه تحريم بيع العنب لمن يعصره خمرًا، وتحريم أن يؤجر الإنسان نفسه في عصر العنب ليكون خمرًا، فالمعاملة في أصلها مباحة غير أنها لما أدت إلى محرم قطعًا حرمت.
9. وعليه استشرف الشارع الحكيم بأنه لو أبيح الفضل المذكور لاستشرف المتبادلين إلى طلب النسأ أو الزمن مقابل الزيادة، والجمع بين الفضل والنسأ هو ربا النسيئة أو الدين السابق توضيحه. كما أنه لو أبيح النسأ لاستشرف المتبادين إلى طلب الفضل مقابل الزمن والجمع بينهما هو ربا الدين كما ذكر، ولذا لما علم الشارع هذا فمنع الفضل والنسأ من أصله لئلا يكون سبباً للتوصل إلى المحرم وهو ربا الدين.
السبيل 19-2-2015