أوباما وهاجس اتفاق النووي وصراع المنطقة الأكبر

للتذكير فقط، فقد جاء أوباما إلى السلطة ببرنامج يتمثل في الانسحاب من مستنقعات الشرق الأوسط، بخاصة العراق وأفغانستان، والذهب نحو حوض الباسفيكي والتحدي الصيني، كما تملي ذلك الرؤى الإستراتيجية العاقلة للإمبراطورية الكبرى في العالم.
وبدأ بالفعل في ذلك ببرمجة الانسحاب من العراق، وكذلك من أفغانستان، لكنه ما لبث في ولايته الثانية أن عاد إلى التورط من جديد في ذات المستنقعات، فها هو يتلكأ في الانسحاب الكامل من أفغانستان، بينما يعود إلى العراق من جديد تحت لافتة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، وعادت صيحات الحرب على الإرهاب تدوي في جنبات البيت الأبيض والبنتاغون كما كانت عليه الحال أيام بوش الابن.
لم يكن هذا التناقض هو الوحيد بين البرنامج والتطبيق في عهد أوباما، إذ خلافا لخطاباته الأولى في القاهرة واسطنبول، عاد الرجل إلى السياسة القديمة للولايات المتحدة في دعم الدكتاتوريات، والتجاهل شبه الكامل لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما في الملف الفلسطيني، فلم يتقدم أية خطوة إلى الأمام، لاسيما بعد أن واجه صلف نتنياهو، وها هو يقترب من نهاية ولايته الثانية من دون أي تقدم، اللهم سوى العمل الحثيث من أجل احتفاظ نتنياهو بمزايا السلطة وقيادتها التي تصر على رفض المقاومة، وتكريس التعاون الأمني.
المصيبة أنه ورث إمبراطورية في حالة تراجع، تختلف اختلافا كبيرا عن تلك التي ورثها بوش عن كلينتون، ولا شك أن ذلك قد ترك ظلاله على سلوكه السياسي.
الجانب الذي يحظى هذه الأيام بالاهتمام الأكبر لدى أوباما، ويبدو أنه يحكم الكثير من سلوكه السياسي المتعلق بمنطقتنا، هو الاتفاق النووي مع إيران، ويبدو أنه يبحث عن إنجاز ينهي به ولايته، فيما يبدو أن شعور طهران بحاجته تلك ما زال يدفعها إلى التعنت في المفاوضات.
لأجل الاتفاق المذكور، نرى كيف يجامل أوباما إيران في سوريا، وإن كان هذا البعد محكوما إلى حد كبير بمطالب الكيان الصهيوني الذي يريد إطالة أمد النزاع لاستنزاف جميع أعدائه، كما جامل إيران في العراق، وإن كان هنا مختلف إلى حد ما، إذ يدير معركته ضمن خطوط معينة، بحيث لا يسمح للدولة العراقية، ومن ورائها إيران بتحقيق انتصار كامل على تنظيم الدولة، وأقله انتصار كبير، وذلك من أجل أن يستخدم ذلك في سياق المساومة على الملف النووي.
وفي اليمن أيضا، رأينا كيف يجامل أوباما إيران رغم وضوح المشهد هنا من حيث وجود انقلاب عسكري سافر على سلطة منتخبة من قبل جماعة مسلحة تتلقى دعمها الكامل من إيران. أما التغير الذي تابعناه خلال الأيام الماضية، فيبدو ذا صلة بتعنت إيران في مفاوضات النووي، ومسعىً لمساومتها على تغيير مواقفها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بموقف أمريكا والغرب عموما من هذا الصراع الدائر بين إيران من جهة، وبين محاور كبرى في الوضع العربي، والذي يشير إلى ارتياح لتصاعده؛ ليس ضمن سياسة “فرق تسد” التي تأتي بصفقات أسلحة كبيرة وحسب، بل أيضا من أجل الضغط على إيران في سياق الاتفاق النووي أيضا.
أما الخاسر الأكبر من هذه المعارك فهي الأمة التي ضاع ربيعها بين سندان إيران، وبين مطرقة أنظمة الثورة المضادة، لكن المشهد الآن ينفتح على صراع طويل ودموي بين المشروعين بعد أن نجحا معا، ودون تنسيق واضح في ضرب مسيرة التحرر للشعوب العربية، وهنا تجد الأخيرة نفسها مضرة للانحياز لمسيرة تحدي النفوذ الإيراني بعد أن تجاوز كل الحدود بسيطرته على أربع دول عربية، بل وربما تأجيل الحديث عن الإصلاح الداخلي إلى حين التخلص من هذا التحدي أو تحجيمه.
لا يوجد أفق قريب لحل هذا النزاع الدموي بين المعسكرين، لكن أمريكا أوباما لن تستفيد كثيرا من الناحية العملية، فما يجري لن يعيد إليها هيبتها القديمة في عالم أصبحت فيه التعددية القطبية أقرب إلى الحقيقة الملموسة، والنتيجة أن فوضى الإقليم والعالم ستبقى قائمة، وشعوب هذه المنطقة خاسرة في المدى القريب، لكن المستقبل يبدو أفضل إذا أدركنا أن ما بعد هذا النزاع لن يكون كما قبله، إذ لن تقبل الجماهير بالعودة إلى الوضع القديم، ولا بد أن تقدم الأنظمة استحقاقات أفضل للشعوب حتى تستقر الأوضاع على نحو معقول.
(الدستور 2015-03-01)