توظيف الدين

هناك فرق بين من يحمل الدين ومن يوظف الدين، وعندما يقتصر الأمر على حمل الدين والالتزام بأفكاره وتعاليمه وآدابه، فلا مشكلة أبداً، مع المخالفين ولا المؤيدين ولا المحايدين، لأن من يحمل الدين بطريقة صحيحة لن يكون قاتلاً للنفس، ولا معتدياً على الآخرين ولا على أموالهم ولا أعراضهم، لأن الدين يأمره أن يحب الخير لغيره كما يحبه لنفسه في الحدود الدنيا، والمرتبة الأعلى المطلوبة أن يفضّل غيره على نفسه، ليصل إلى مرتبه الإيثار التي ترفع درجته في الآخره فضلاً عن محبة الناس له في الدنيا.
المشكلة تتمثل بتوظيف الدين للحصول على مكاسب شخصية أو فئوية أو جهوية أوحزبية، وأن يصبح الدين والتدين مطية للوصول إلى المراكز الدنيوية ، واستخدام الدين كإحدى أدوات التنافس على بعض لعاعات الدنيا، تحت ستار قشور الدين ومظاهر التدين، وأعتقد هنا تتبلور معالم المشكلة في الجدل الجاري بين الأحزاب السياسية المختلفة بكل ألوانها وخاصة العلمانية أو التي تدعي العلمانية، وهذا أيضا جوهر الخلاف في جدلية الدين والسياسة على الوجه الأكثر دقة بالتوصيف.
توظيف الدين أمر مرفوض قطعاً على هذا النحو السابق، لأن ذلك يمثل نوعاً من الانتهازية الممقوتة، التي تسيء إلى الدين، ولا تخدمه ولا ترفع من شأنه، ومن أراد أن يخدم الدين والبشرية، يجب أن يبتعد عن كل وسائل التكسب به أو بيعه بثمن بخس، لكن العمل على إرساء معالم الحريّة التي تجعل التبشير بمبادئ الدين وقواعده وقيمه وأدابه وتعاليمه أمراً مسموحاً، فهذا أمر مطلوب قطعاً وهذا هو الأصل.
هذا الدين للأمة كلها، وهو يمثل إطارها الحضاري الواسع، ويشكل المصدر الرئيس لمنظومتها القيميّة التي ترسم معالم حياتها ومستقبلها وتراثها، ومعالم ثقافتها العامة، ولا يجوز ان يكون الدين حكراً على جهة، ولا يجوز أن يكون تحت وصاية طرف، لان الدين ليس بضاعة مسجلة باسم فئة، ومن أراد أن يخدم أمته وشعبه على ضوء مقاصد الشريعة ومبادئها، ينبغي أن يتقدم على ظهر القوة والأمانة والكفاءة والحفظ والعلم، وليس على ظهر الدين ومظاهر التدين وقشوره.
إن منهج توظيف الدين لم يعد مقتصراً على مواجهة المخالفين من قبل بعض الإسلاميين، بل أصبح سلاحاً يتم إشهاره في معمعة الاختلاف فيما بينهم أنفسهم، ووصل الأمر إلى استخدام الآيات التي نزلت على سيدنا محمد بشأن أعدائه من الكفار والمنافقين، مثل قوله تعالى: «لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ» حتى يتم الفهم بشكل تلقائي للحديث عن مسجد ضرار الذي ورد الحديث عنه اسقاطا على المخالف ، حيث أن مسجد ضرار هو الحدث الذي كان سببا لنزول الآية.
هذه هي المشكلة بحقيقتها وجوهرها، عندما يتسلل شعور إلى الذين المنضوين في صفوف الجماعات الاسلامية،او الذين قضوا ردحاً من الزمن في العمل الحزبي الإسلامي أو العمل التنظيمي أنهم هم الإسلام نفسه ،وهم الدعوة النبوية ذاتها وعينها، وهم يحتلون موقع النبي محمد صلى الله عليه وسلم تماما، ويتقمصون شخصيته وسيرته، وكل من يخالفهم إمّا أن يكون من كفار قريش، أو من جماعة عبدالله من أبي سلول، وعندما يتم صراع سياسي أو تنافس بين جماعات وأحزاب على استلام سلطة في مجتمع إسلامي، لا يتم وصف الصراع على أنه بين احزاب سياسية او فئات اجتماعية متنافسة؛بل هو مواجهة بين المؤمنين من جهة وبين الطغاة، من جهة أخرى، وهذه صورة مصغرة عما يفعله (داعش) تماماً عندما استطاعت أن تشكل سلطة في بعض بقاع الاسلام ، فتقمصت دولة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر، إلى درجة استعادة خطبة أبي بكرالاولى عندما تم مبعايته خليفة، وانطلق الجيش ليعيد فتح المنطقة من جديد، ويتم فرض الجزية وتحطيم الأصنام حول الكعبة، ووصف العالم كله بأنه دار حرب، وكل المسلمين مرتدين.
نحن أمام قضية مرعبة ومخيفة فعلاً لأمثالي الذين يملكون وجهة نظر، فكيف لا تكون المسألة تبعث على الرعب تجاه الآخرين، من غير الإسلاميين ومن غير المسلمين، وما أشعرني بالرعب أن يكون هذا الاستخدام للآيات من قبل معتدلين وعقلاء في الحركة الإسلامية، فلا عتب على من أوغل في الشتم والرّدح واستخدام لغة التخوين والخروج من الملّة.
(الدستور 2015-03-01)