ماذا حين تبلغ غطرسة اللوبي الصهيوني الأميركي ذروتها؟

منذ أسابيع، والصحافة الإسرائيلية منشغلة بالجدل حول خطاب نتنياهو في الكونغرس الأميركي الذي ألقاه في الثالث من الشهر الجاري، بين مؤيد له، وهم القلة، وبين من يعتقد أن تأثيره سيكون سيئا على العلاقة الأميركية الإسرائيلية، وهو جدل كان ينسحب بالضرورة على الأوساط الصهيونية في الولايات المتحدة، بين مرحِّب بالخطاب وبين رافض له لذات الاعتبارات المتعلقة بالخسارة التي يمكن أن يُمنى بها الكيان الصهيوني جراء استفزاز الحزب الديمقراطي الذي كان الأقرب تاريخيا للجالية اليهودية في الولايات المتحدة؛ هو الذي يُصنف بوصفه حزب الأقليات وفي مقدمتهم الكاثوليك، إلى جانب الليبراليين في أوساط “الواسبس”، أي البيض الأنجلوساكسون.
ليس موضوعنا هو مضمون الخطاب المتعلق بالاتفاق النووي مع إيران، إذ يدرك نتنياهو أن نووي إيران لا يهدده، والأخيرة لا تفكر بذلك أصلا، لأنها تعلم أن بوسعه أن يرد على ذلك بإعادتها (أي إيران) إلى العصر الحجري، حتى من دون أميركا، ومهما سعت إيران إلى التسلح، فهي لن تصل بحال ما وصله الكيان الصهيوني، في ظل الدعم الأمريكي. وإذا كان الاتحاد السوفييتي بعظمته قد هُزم في سباق التسلح، فهل ستنجح فيه إيران؟! لكن نتنياهو يبقى حريصا بكل جدية على توازن القوى الإستراتيجي في المنطقة، ومن هذا المنطلق تأتي مواجهته مع مشروع الاتفاق مع إيران.
في المقابل؛ يريد أوباما إنجازا في ولايته الثانية، ولا يجد بعد تورطه في مستنقعات الشرق الأوسط غير هذا الاتفاق، ولا يريد لأحد أن يخرِّب عليه، مع العلم أن الحرص على الاتفاق ليس حكرا على أوباما وحده، بل يشمل المؤسسة الأمنية والعسكرية أيضا.
ليس هذا موضوعنا، وما يعننيا هنا يتمثل في دلالة هذا التحدي الذي مارسه نتنياهو، ليس لأوباما بشخصه، بل لأمريكا برمتها، حتى لو قيل إن الجمهوريين كانوا مع الخطاب نكاية بأوباما والحزب الديمقراطي، هم الذين أصبحوا منذ عهد بوش الابن يزايدون على الديمقراطيين في الهيام بإسرائيل، بخاصة بعد الاتساع المذهل لسيطرة الكنائس المعمدانية الجنوبية (ذات الرؤية المتصهينة) على الحزب.
في سياق التعليق على هذا التحدي، قال المحلل الإسرائيلي الشهير “بن كسبيت” في اليوم التالي للخطاب: “أمس وصلت المواجهة غير المسبوقة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية والرئيس الامريكي ذروتها. أمر كهذا لم يحدث في السابق، ونشك فيما إذا كان سيحدث في المستقبل. زعيم أجنبي يصل إلى الكونغرس الأمريكي من خلف ظهر الرئيس، ويلقي خطابا حماسيا ضد سياسة الرئيس”. ثم يضيف “نانسي بلوسي، من المؤيدين المتحمسين لإسرائيل وزعيمة الأغلبية الديمقراطية سابقا، تركت أمس القاعة قبل انتهاء الخطاب وأصدرت بيانا مثيرا قالت فيه: (شعرت بالإهانة الشديدة عندما سمعت (نتنياهو). الإهانة التي عبر عنها في خطابه واستخفافه بذكاء الجمهور الأميركي)”. هنا علق بن كسبيت قائلا: “إذا كان هذا ما تعتقده بلوسي، فمن المهم أن نعرف ماذا كان يعتقد أوباما؟!”.
هنا تكمن النقطة الهامة، ذلك أن الإهانة التي شعرت بها بلوسي، ومن ورائها أوباما، وهم يرون أعضاء الكونغرس يصفقون لنتنياهو، مرة بعد مرة، لا يمكن إلا أن تكون انسحبت على الجمهور الأميركي، بخاصة الطبقات المثقفة التي تتابع هكذا قضايا، فضلا عمن سمعوا بالأمر من الجمهور العادي لكثرة ما ترددت أصداؤه في وسائل الإعلام.
إنه وضع مثير بالفعل، فهذا رئيس وزراء دولة تحظى بأقصى درجات الرعاية من الدولة الكبرى في العالم، ليس على الصعيد العسكري والسياسي وحسب، بل على الصعيد الاقتصادي أيضا، ومع ذلك تصل به الوقاحة حد أن يتحدى الرئيس في عقر داره، فيما يصفق له أعضاء في اللوبي الصهيوني، غير عابئين بالمجتمع الأميركي برمته.
هذا المستوى من الغطرسة سيترك آثاره على المجتمع، لكن ذلك لن يحدث سريعا في ظل سطوة اللوبي الصهيوني التي تجد صداها في الإعلام والسينما والاقتصاد، وتلاحق أي منتقد للكيان الصهيوني بتهمة اللاسامية.
ليس ثمة أقلية تصل بها الغطرسة هذا المستوى، إلا وتصطدم بالمجتمع في يوم من الأيام. صحيح أن الكيان الصهيوني موجود ويمكنه احتضان كل يهود العالم، لكن المؤكد أن ذلك الكيان لن يغدو شيئا من دون دعم الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة.
لا نعول كثيرا على هذا الأمر في المدى القريب، لكنه قد يشكل أمرا مهما في المدى البعيد، وربما المتوسط، الأمر الذي ينسحب على أوروبا، وما نراه من تفاعل مع الهم الفلسطيني في أوساط الشارع، وما تعكسه استطلاعات الرأي من تطور في المشاعر المعادية للكيان الصهيوني، يشير إلى ذلك. ولا شك أن إمكانية تعزيز هذا المسار كبيرة، لكن ذلك لن يحدث من دون مقاومة للمحتل، فالرأي العام العالمي يحترم الشعوب التي تقاوم، وليس الشعوب الخانعة.
(الدستور 2015-03-09)