ترشيد الاختلاف ضرورة

في مقالة سابقة حاولت من خلالها الإسهام بنقل الاختلاف الذي ظهر بقوة هذه الأيام وطفا على السطح مؤخراً،إلى أن يكون اختلافاً على المشاريع والبرامج، من خلال الحديث عن حقيقة وجود مشروعين واضحين، ولكل مشروع استراتيجية ورؤية وخطة وقيادة مستقلة، ولا بد من الاعتراف بهذه الحقيقة والتعامل معها بهدوء ورويّة وجدية، بعيداً عن الإنكار أوالتغافل.
ولكن وجدت من خلال ردات الفعل غضباً شديداً وتوتراً زائداً، وإصراراً على عدم التفهم الذي وصلني من خلال المكالمات أو إجراء بعض الحوارات، ولم أدر حتى هذه اللحظة: ما هي أسباب الانفعال والغضب من طرح فكرة المشاريع؟ لأن الإسهام في ترشيد الخلاف ليكون خلافاً على المشاريع والبرامج أفضل كثيراً من محاولة الإسهام في الذهاب بالاختلاف إلى مزالق لا تحمد عقباها، وفي الوقت نفسه لا فائدة من إنكار وجود الاختلاف أو الاستخفاف به أو الانحطاط به إلى درجة الاسفاف؛ ووصفه بأنه عبارة عن خلاف شخصي لا قيمة له أو مجرد مشاغبة من قلّة قليلة من خلال وصفها بأنها عاصفة في فنجان.
الاعتراف بالاختلاف وتوصيفه بطريقة لائقة ومحترمة هي نقطة البدء بالبحث عن الحل، أما بالنسبة للأخطاء فهي كثيرة وعديدة من كل الأطراف، وهذا مما ينبغي الاعتراف به، ولكن الاستمرار في منهج معالجة ظواهر المرض ليس بديلاً عن منهج معالجة أصل المرض، وضرورة البدء بالتشخيص الدقيق والوصف الصحيح، ومن ثم الاعتراف به بشجاعة وجرأة، وينبغي التوقف عن منهج الإنكار ومخادعة النفس، حيث تمت ممارسة ذلك لسنوات طويلة ما أدى إلى استفحال المرض وخطورته إلى درجة الاستحقاق الجراحي.
لا بد من بعض الإيضاحات لمزيد من التجلية، حول فكرة المشروعين، حيث تم التأكيد على وجود مشروع سياسي وطني يخصّ الدولة الأردنية، والذي يقوم على فكرة ضرورة الانخراط في العمل من أجل الإسهام في بناء الدولة الأردنية الديمقراطية الحديثة، لتكون آمنة مستقرة لكل أبناء المجتمع الأردني الواحد، الذي تشّكل عبر عقود من السنوات، دون نظر إلى أصل أو فصل، فكل من ينتمي لهذه الدولة، وهذا الشعب، ويجد نفسه في هذا المشروع فهو أصيل فيه وليس دخيلاً ولا غريباً.
وهناك مشروع آخر يتعلق بالساحة الفلسطينية، يجمع بين السياسة والمقاومة المشروعة، ويهدف إلى تحرير فلسطين أرضاً وانساناً، وهذا المشروع له استراتيجية ورؤية وخطة وقيادة مستقلة، وهو يحتاج إلى كل الطاقات والكفاءات المتوافرة على الأرض الفلسطينية وفي الشتات أيضاً.
المشروعان ليسا متناقضين، ومن ينخرط بالمشروع الوطني ليس مطلوباً منه أن ينسى أشواقه، وليس في موقع العداء أو التخلي عن فلسطين، فهذا لا يقول به عاقل، ولا يذهب إلى ذلك عربي أو مسلم، ويجب الكف عن اطلاق هذه الاتهامات لأنها مجرد ترهات تسيء إلى من يطلقها ولكل من يجعلها ربابة ومعزوفة مخروقة، وكل ما هو مطلوب البعد عن ممارسة الاختراق أو محاولة الهيمنة والتذاكي والعبث.
لم يتم التطرق إلى الحديث عن برنامج المشروع السياسي الوطني ومضمونه، فلا يعقل أن ينعزل عن التهديدات الخارجية والوضع الإقليمي، ولا يستطيع أن ينكر مواطن أردني درجة القرب بين الأردن وفلسطين وتمازج الدم الأردني الفلسطيني إلى درجة لم يصلها تمازج بين شعبين على الصعيد العربي والإسلامي، فالحديث عن المشاريع هو حديث تنظيمي سياسي إداري محض، ولا يجوز إدخال الدين والعقيدة والانتماء العروبي والقومي في هذا الاختلاف بجوهره وظواهره، وينبغي الابتعاد مطلقا عن لغة التكفير والتخوين والتشهير لأنها لغة الجهلاء والمفلسين، كما يجب الابتعاد عن مسلك تحريف الكلام وتعمد سوء الفهم.
الدولة الأردنية قامت وازدهرت واستقرت ونمت بجهد أبنائها المخلصين جميعا، ولا ينبغي التنكر لكل ذرة جهد بذلت، ولا يجوز غمط حق صاحب قطرة عرق، أو نقطة دم من مواطن مخلص غيور على هذا التراب الطهور، بالدرجة نفسها التي يتم فيها تقدير تضحيات ودماء الأردنيين على أرض فلسطين.
يجب الاتفاق على إعلاء شأن المواطنة، والمواطنة في حقيقتها عمل وجهد وبذل وإخلاص وانتماء وحب، وليست لوناً أو عرقاً أو جهة، فكل من يخلص في عمله، ويحافظ على المال العام ويقاوم الفساد ويبذل جهده في تطوير بلده فهو مواطن حقيقي، وكل من يسرق وينهب ويغش ويدلّس، ويخرب ويرتشي فليس من المواطنة بشيء، ولا حاجة للوطن به مهما كان اسمه وأصله وفصله.
السياسيون والمثقفون وأصحاب الشهادات يتحملون مسؤولية المبادرة إلى الاسهام في تسهيل إدارة الاختلاف بنبل وسمو أولاً، وبمنهجية علمية موضوعية ثانياً، ووضع حد لكل ما يصدر عن الجهلاء والغوغاء، وينبغي على الكتاب أن لا يتسرعوا بالانزلاق نحو إطلاق الأوصاف المسيئة، والتحليلات الغرائزية السطحية التي تصب الزيت على نار الفتنة، أو ممارسة الاستغفال (والاستلطاخ) الذي لا يليق بالعقلاء.
(الدستور 2015-03-09)