ماذا خلف هدنة السنوات الخمس في غزة؟

يدور الحديث اليوم عن مقترح لا يوجد اتفاق عمن بادر إليه، لكن المهم أن حركة "حماس" تبحثه ولا تمانعه. الاقتراح يدور حول اتفاق على هدنة بين "حماس" وإسرائيل لثلاث أو خمس سنوات، يتم خلالها وقف كلي للعمليات من غزة ضد إسرائيل. وفي المقابل، ترفع إسرائيل الحصار المفروض على قطاع غزة من خلال فتح المعابر كافة، فاسحة المجال لإعادة إعمار القطاع المُدمر بعد العدوان الإسرائيلي الأخير.
بالطبع، هذا ليس جديداً أو غريباً على "حماس"؛ إذ إنها قالت في السابق بأنها لا تمانع هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل (اقرأ سلام على أرض الواقع)، وبما ينسجم مع طرحها المعلن بعدم الاعتراف بإسرائيل. وفي الأنباء أيضاً، أن هناك دعماً دولياً للفكرة، وقبولاً إسرائيلياً من حيث المبدأ.
وإذا تم إنجاز هدنة طويلة في غزة، فسيكون هذا تطوراً لافتاً في العلاقة بين الطرفين، وقد يفتح الآفاق لتحولات سياسية مهمة. والسؤال المُلح هو: هل سيمهد ذلك لإقامة الدولة الفلسطينية في غزة؟ أم أنه سيكون حالة عابرة ليس لها أبعاد سياسية طويلة المدى، ولا يغدو كونه خطوة لتحسين الأحوال المعيشية والإنسانية في غزة؟
هناك مجموعة من العوامل تعزز فكرة أن هذا التطور، إن حصل، سيكون بداية لتغير مسار القضية الفلسطينية باتجاه التركيز على غزة كخطوة أولى، تليها الملفات الأخرى لاحقاً، ومن ذلك:
أولا، أن قطاع غزة يخضع للسيطرة شبه الكاملة لـ"حماس"، وأن هناك سلطة مركزية في القطاع واقتصادا ديناميكيا رسميا وغير رسمي، وبخاصة قبل إغلاق المعابر، وأن المعوق الرئيس للازدهار الاقتصادي في غزة هو الحصار الشامل الذي يعاني منه القطاع، ولاسيما إذا أخذنا بالحسبان ضعف ارتباط اقتصاد غزة بالضفة، وغياب ارتباطها السياسي، وبالتالي هي وحدة ذات تجربة خاصة.
ثانياً، الانقسام الفلسطيني بين "فتح" و"حماس"، الذي باءت كل المبادرات لإصلاحه بالفشل، بدءاً من اتفاق مكة وانتهاء باتفاقات القاهرة، وعدم القدرة على الاتفاق، يعني أنه من غير الممكن تطوير استراتيجية وطنية فلسطينية متفق عليها. وما يعزز الشرخ الفلسطيني هو أن غزة والضفة لا يشكلان جسماً جغرافياً واحداً، ولا يحكمهما جسم سياسي واحد أيضاً، فأصبح التقسيم تحصيل حاصل؛ فغزة تسيطر عليها "حماس" مع قمع "فتح" وأنصارها، والضفة تسيطر عليها السلطة و"فتح" مع قمع أنصار "حماس".
ثالثاً، إن إسرائيل لم تعد تخفي موقفها الرافض لإنشاء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. وحتى جهود "السلطة" لانتزاع اعتراف دولي بها باءت بالفشل، والدعم الدولي والعربي الذي يقدم للسلطة لم يعد كافياً لاستدامة السلطة وموظفيها. وتزامن ذلك مع الفشل الذريع لمسار "أوسلو"، والجهود المبذولة للتوصل لاتفاق لإقامة الدولة الفلسطينية. فالسلطة في الضفة تقع تحت ضائقة مالية غير مسبوقة، وإسرائيل مستمرة في قضم الأراضي الفلسطينية من خلال الاستيطان وغيره، وتقف "السلطة" عاجزة عن وقف أي من الممارسات الإسرائيلية سياسياً أو غير ذلك، وهي على وشك الانهيار الآن، وربما تنهار في أي لحظة. وعليه، لم يعد للسلطة ما تقدمه للشعب الفلسطيني لا في الضفة ولا خارجها. فالانقسام الفلسطيني يشكل هدية مجانية لإسرائيل لا يمكن المبالغة في أهميتها.
ضمن المعطيات السابقة، ليس من المستبعد أن تكون هدنة طويلة في غزة بداية عملية قد تقود أولاً إلى تعزيز سيطرة "حماس" على القطاع واستكمال بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية، وفي فترة لاحقة يُصار الى إنشاء كيان رسمي هناك مع إجراء ترتيبات خاصة للضفة الغربية.
لا "حماس" ولا إسرائيل تروج لذلك، ولكن تطورات القضية الفلسطينية تعززه. ففي الجانب الفلسطيني، لا يتعارض هذا مع أيديولوجيا "حماس" المبنية على إقامة دولة فلسطينية على أي جزء مُحرر من فلسطين. وعجز "السلطة" عن التأثير في مجريات الأمور بغزة، يجعل من ذلك أمراً محتملاً، ما يؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي برمته.
(الغد 2015-03-12)