عام على عودة «القرم» إلى.. الوطن «الأم» !

باقتراب الذكرى الأولى لـِ(قبول) موسكو نتائج استفتاء شبه جزيرة القرم، وصدور قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتبار «القرم» جزءاً من جمهورية روسيا الاتحادية (18/3/2014) بدا واضحاً التصعيد في لهجة اطراف الأزمة وبخاصة واشنطن ولندن اللتين تبديان تشدداً غير مسبوق ازاء الأزمة الاوكرانية، عكسه التراشق الاعلامي المحمول على لغة قاسية واستفزازية كتلك التي استبطنها تصريح مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون اوروبا فيكتوريا نولاند، التي انتقدت نظام «الرعب» في القرم وشرق اوكرانيا، واصفة اياه بالاحتلال غير المشروع للقرم واعمال العنف والسلب المخيفة التي تُمارسها روسيا واتباعها الانفصاليين! أما وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند فكان اكثر حدة واستخدم مصطلحات وتوصيفات لم تكن دارجة خلال الحرب الباردة مثل قوله: ان روسيا تشكل الخطر الاكبر على بلاده (...) ونحن (والكلام لهاموند) نواجه زعيماً روسياً مصمماً على «عدم» الانضمام الى «النظام العالمي» الذي تحكمه «قوانين» ويحافظ على السلام بين الأمم، لكن بوتين يُصرّ على تخريبه، ختم رئيس الدبلوماسية البريطانية الذي وُصِفَ ذات يوم بأنه معتدل وأقل عدوانية من سلفه وليام هيغ.
وإذا ما رصدنا جملة من التحركات السياسية وخصوصاً العسكرية واكثرها دراماتيكية تسريب انباء عن خطة لانشاء جيش اوروبي «موحد»، فإننا نكون أمام «ساحات» جديدة للمواجهات بين الغرب بما هو اطلسي ببزة عسكرية واوروبي بنكهة اقتصادية ومالية، في مقابل روسيا التي تُبدي هي الاخرى صموداً (لا دقة في وصفه بالعناد) ازاء محاولات الغرب الامبريالي تركيعها وتحويلها - او لنقل تكريسها دولة عادية وليست عظمى ولا حتى كبرى، كما حاول اوباما التقليل من شأنها والغمز من قناتها عندما قال انها لا تعدو كونها دولة عادية - وتَزامُنْ ذلك مع مناورات اميركية اطلسية في البحر الاسود (اي قريباً من شبه جزيرة القرم)، مضافاً اليها ارسال ثلاثة آلاف جندي اميركي الى دول البلطيق لاجراء مناورات عسكرية، مع الأخذ في الاعتبار المناورات التي تجريها روسيا في ستافروبول والمياه الاقليمية للقرم.
ليست طبول الحرب هي التي تُقْرَع، لكن تجاهل دلالاتها يصبُّ في قناة عدم الوقوف على الاسباب الحقيقية للازمة الاوكرانية التي لا يمكن فصلها - مهما حسنت النيات - عن المسعى الغربي وخصوصاً الاميركي لتحجيم روسيا وفرض العزلة عليها وعدم تمكينها من تشكيل اي قوة اعتراض مهما صغرت في وجه الغرب الامبريالي (بما في ذلك دورها في مجلس الأمن) الساعي هو الآخر لاستعادة هيمنته او الإبقاء على ما تبقى منها، على مختلف دول العالم، بعد ان تتابعت الدلائل والمؤشرات على تراجع السطوة الاميركية، اثر الاستنزاف الخطير في قواها المالية والعسكرية والبشرية، بعد حربين عدوانيتين على العراق وافغانستان وتداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت باميركا وتالياً اوروبا وبروز تيار اميركي داخلي، لا يدعم الحروب والغزوات العسكرية والذي استثمره اوباما في معاركه مع خصومه الجمهوريين، لكنه تجاه روسيا، بقي على عناده وعدوانيته، وكاد ان يقع في فخ الانزلاق الى مواجهة مباشرة مع موسكو عندما «فكّر» في تزويد نظام كييف الضعيف والمُرتَهَن لميليشيات «القطاع الايمن» الفاشية، بأسلحة فتّاكة، ما لبثت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، ان أقنعته بالاقلاع عن الخطوة الخطيرة هذه نظرا لتداعياتها واكلافها الباهظة، وهي - ميركل - تُدرك قبل غيرها ان الاوروبيين وخصوصا المانيا بما هي «رأس» قاطرة الاتحاد الاوروبي الاقوى، التي ستدفع الثمن الاكبر، اذا ما حدثت مواجهة كهذه، وتعلم هي ايضا، أن بوتين لن يُقدِم اي تنازلات مهما كَلّفه ذلك، بعد ان وصل الى نقطة اللاعودة ولم يعد بمقدوره ابداء اي تراجع، لانه سيخصم من رصيده السياسي والشخصي.
يَحْضُرُ هنا ما ورد في المقابلة المطولة مع الرئيس الفرنسي الاسبق فاليري جيسكارديستان، التي اجرتها معه مجلة «السياسية الدولية» الفرنسية، وخصوصا انه حمّل واشنطن مسؤولية دعم الانقلاب في اوكرانيا مطلع العام السابق (شباط 2014) مؤكدا في الان ذاته، أن حل الازمة الاوكرانية يمر ببقاء كييف «خارج» كل من الاتحاد الاوروبي والناتو.
الرئيس الفرنسي الذي لم يغب عن المشهد الفرنسي بل والاوروبي وهو الذي ترأس اللجنة التي وضعت الدستور الاوروبي، شكّك في امكانية وصف تغيير السلطة في اوكرانيا بانه جرى بطريقة ديمقراطية، مضيفا ان الولايات المتحدة هي التي دعمت التمرد وألهمته، ومن ثم قادت سياسة فرض عقوبات ضد روسيا، وجاءت هذه السياسة انتهاكا للقانون الدولي مُتسائِلا: مَنْ هو الذي يمكن له ان يحتفظ بحق انشاء قوائم لمواطنين تشملهم العقوبات، من دون إعطائهم فرصة لتبرئة انفسهم، واللجوء الى خدمات المحامين؟.
لا يضيع الرئيس الفرنسي الاسبق «البوصلة» رغم الضجيج الاعلامي الهائل التي تبثه وسائل الاعلام الاميركية والاوروبية وخصوصا منها صاحبة الحنين الى الماضي الفاشي والنازي، وتحديدا في ما خص انضمام شبه جزيرة القرم الى روسيا، معتبرا انها خطوة فيها «عدالة تاريخية» فضلا عن ان ذلك جرى بناء على ارادة الغالبية الساحقة من سكان شبه الجزيرة، وبالتالي فان ديستان يخرج الى نتيجة مفادها: إن بقاء القرم روسيّاً، يُمثل ظرفا يجب اخذه بعين الاعتبار في أي حل للازمة الاوكرانية.
الى اين من هنا؟
تبدو الامور معقدة ومفتوحة على احتمالات عديدة، لكن ما يظهر بوضوح اكثر هو تضاؤل وتقلص هوامش الخيارات امام معسكر داعمي نظام كييف المتصدع وخصوصا في لندن وواشنطن، بعد ان «لجم» اتفاق مينسك الاندفاعة العدوانية وغريزة الولع بشّنِ الحروب، وبات الخيار الذي لا مهرب منه، هو تنفيذ اتفاق مينسك أو الذهاب إلى الفوضى والمجهول.
(الرأي 2015-03-12)