ذكريات معلم 6 العمل السري لإحياء نقابة المعلمين

تم نشره الأحد 22nd آذار / مارس 2015 01:52 صباحاً
ذكريات معلم 6 العمل السري لإحياء نقابة المعلمين
محمد داودية

عندما تحقق شعار: "كل البنادق ضد إسرائيل"، التحم الجيش والفدائيون الفلسطينيون في معركة الكرامة في 21 آذار 1968، وتم إلحاق هزيمة نكراء بـ "جيش الدفاع الإسرائيلي"، الجيش الذي لا يقهر، كما وصفته الصحافة العالمية. كان الإسرائيليون المزهوون بجيشهم قد ألحقوا قبل أقل من سنة في 5 حزيران 1967 هزيمة نكراء بالدول العربية الثلاث: مصر وسورية والأردن. ولذلك أنزلوا قواتهم في بلدة الكرامة، وعبروا نهر الأردن تحت وهم أنهم في نزهة، الى درجة أنهم دعوا الصحافيين الى تناول طعام الغداء في المرتفعات الشرقية لوادي الأردن، على أمل انهم سيحتلونها في سويعات ثم يرجعون مكللين بالغار، وبعد 16 ساعة من المواجهة الأسطورية، تحقق الانسحاب الإسرائيلي الكامل الذي أصر الملك الحسين على ان يكون بلا قيد وبلا شرط.
لقد أحرقتهم المدفعية الأردنية، وصدمهم صمود الجنود الأردنيين والمقاتلين الفلسطينيين، ومني المعتدون بخسائر جسيمة في الأرواح والمعدات وصلت الى 250 ضابطا وجنديا إسرائيليا و450 جريحا، مقابل 86 جنديا اردنيا و95 فدائيا فلسطينيا، وقد قال حاييم بارليف رئيس الأركان الإسرائيلي: "ان إسرائيل فقدت في هجومها على الأردن آليات عسكرية تعادل ثلاثة أضعاف ما فقدته في حرب حزيران". ويتذكر أبناء جيلي كيف ان الجيش الأردني عرض غنائم الدبابات والاليات الإسرائيلية في الساحة الهاشمية في قلب عمّان..
وقد قال لي الأمير زيد بن شاكر، في جلسة بمنزله عام 1995، وكان رئيسا للوزراء، وكنت نائبا في البرلمان، ان الغيوم التي كانت تغطي، بين فترة وأخرى، سماء الاغوار يوم الكرامة، حيّدت الى حد كبير سلاح الجو الإسرائيلي.
وقد أتيح لي في ربيع عام 1969 ان أشاهد بالعين المجردة كيف تمكن المصريون من إسقاط طائرة إسرائيلية فوق قاعدة الرادار المصري التي أقيمت في مزار الكرك. كانت الطائرات الإسرائيلية تأتي من الغرب من فلسطين المحتلة تعبر فوق أهدافها ولا تقصفها الا في طريق عودتها وهي متوجهة من الشرق الى الغرب لضمان ان تسقط الطائرات التي تصاب، في الأراضي الإسرائيلية، من اجل سلامة طياري تلك الطائرات الذين يقفزون بالمظلة.
أبدع المصريون في تصديهم للطائرات الإسرائيلية المغيرة على قاعدتهم في ذلك اليوم، فقد ظلوا يطلقون نيران أسلحتهم المقاومة للطائرات في خط مستقيم واحد فشكلوا بذلك ستارة وشبكة نارية الى ان اصطدمت بها طائرة إسرائيلية كانت تلقي قذائفها على قاعدة الرادار المصرية فانفجرت في الجو، سقطت الطائرة حطاما الى الغرب من المزار، وخرج عدد غفير من أهالي المزار وطيبة البطوش ومجرا الخرشان ونحن معهم انا وزميلي المعلم جليل الهلسا، للبحث عن الطيار الإسرائيلي الذي تم العثور عليه جثة هامدة متفحمة.
كنت مدرسا – غير منفرد – في مدرسة مجرا الابتدائية بصحبة المعلم -الصديق حتى اليوم- جليل الهلسا، كانت تربطنا صلات طيبة مع الأهالي، فقد كنا نسهر مع الشيخ النوري بن قبلان الخرشة وشقيقه الشيخ نويران ومع الأستاذ ياسين القطاونة ومع والده الشيخ طايع وشقيقه مطيع في قرية جوير المجاورة لمجرا، ولا تزال تربطني صلات طيبة مع عوض ابن الشيخ نويران ومع ابنه الدكتور بشار الإعلامي في التلفزيون الأردني.
واذا كانت ثلوج الشوبك والطفيلة ووادي موسى سيبيرية مهولة فإن ثلوج مزار الكرك ومجرا، لا تقل هولا. أثلجت طيلة 4 أيام، ثلجا متواصلا كثيفا، التزم الطلاب منازلهم، ونفد مخزوننا من كاز الصوبة فقررنا جليل وانا، ان نذهب الى بلدة المزار القريبة، ومن هناك الى منزل جليل في الكرك. سلكنا الطريق الذي يربط الطيبة بمجرا بالمزار وكان الوقت عصرا، مشينا نحو كيلومتر فجددت السماء "رميها" كان الثلج يتهاطل دوائر دوائر ونراه فوقنا كالصحون الطائرة. واصلنا المشي بصعوبة شديدة، وجاء فرج الله، سمعنا صوت سيارة خلفنا ولما اقتربت لوّحنا لسائقها فرفض ان يقف لنا!! صعقت، أي بني آدم هذا الذي ليس فيه من المروءة والنخوة ذرة واحدة. واصلنا المشي المضني نحو 10 دقائق فوجدنا السيارة قد غرّزت وسائقها وصاحبه يدفعانها ويحاولان إخراجها من الغرز، طلبا مساعدتنا قلت لصاحبي ما ترد على هالمجرم، توسلا واستعطفا دون اية استجابة منا، لقد ابتعدنا. ازداد هطول الثلج وأصبحت حركتنا بطيئة جدا جدا، مرت نحو ساعتين ونحن لم نقطع بعد الطريق الذي لا يزيد طوله على 7 كيلومترات.
وصلنا الى المزار وكانت العتمة قد حلّت، كنا جليل وانا شبه متجمدين، ولم يكن ممكنا ان نواصل الى الكرك بسبب اغلاق الطرق ولعدم وجود اية سيارة. تذكرت طالب التوجيهي محمد جميل القطاونة نسيب صديقي المعلم ياسين مطيع القطاونة فدلنا احدهم على منزله الذي دخلناه في الرمق الأخير، كانت اصابعي متيبسة لدرجة انني عجزت عن فك ربّاط البسطار العسكري الذي ألبسه فقام محمد بالمهمة ولم استطع ان أخلع المعطف الجيشي ولا الجرابات الجيشية التي كنت ارتديها فتولى محمد القيام بكل ذلك.
رفع محمد جميل اوار صوبة الكاز حتى أصبحت حمراء كالجمر، وقدم لنا القطاونة طعاما مكونا من الحليب الساخن والسمن البلدي والمربى والعسل والخبز البلدي والحلاوة فأكلت وبلعت بصعوبة، كان جليل شاحبا كالسراج النائس فادركت انني في نفس حالته. "دَمَلنا" محمد بالاغطية الصوفية فتحلحلت اصابعي وسرى الدم في عروقي وزال الغباش عن عيوني وصار بوسعي ان اسمع جيدا، لقد عدت من الهلاك.
لم نتمكن من الذهاب الى منزل جليل في الكرك، فمكثنا في المزار يومين في ضيافة القطاونة الذين لهم فضل لا يرد ولا يسد، ولاحقا فرحت عندما انتخب صديقي الاخر محمد صبري القطاونة رئيسا لغرفة تجارة المزار، وفرحت به جدا عندما زارني وانا سفير في المغرب عام 2003 مع وفد رؤساء البلديات الأردني، ومحمد الان هو رئيس بلدية مؤتة والمزار، اما محمد جميل القطاونة الذي استضافنا في منزله واكرمنا غاية الاكرام، فهو اليوم احد المحامين المحترمين المدافعين عن الحق والعدل.
ومن طرائف ما حصل معي انني عملت معلما مع احد المعلمين قليلي الذمة والدين والوطنية، كنت اتفانى في التدريس ويتفانى هو في اهمال الطلاب والدوام، كان يغادر المدرسة في الصباح يذهب لشراء الأغنام او ليبيعها او لشراء القمح والشعير او لتأجير التراكتور الذي كان يملكه، حاولت معه، الا انه كان وغدا يقابل سخطي عليه بالجملة القبيحة: "يا محمد جاي تقيم الدين في مالطا".
قبل نهاية العام الدراسي ناداني الوغد ودفع اليّ مجموعة من الأوراق قائلا لي: تفضل املأ الصفحات المخصصة لك. كانت الاوراق هي التقرير السري السنوي المكون من قسمين، القسم الأول يملأه المعلم ويملأ المدير القسم الثاني الذي يتضمن تقويمه للمعلم عن سنة، هذا الوغد سيقوّمني!! قلت لنفسي ساخطا، هذا الوغد سيكتب تقريري السنوي الذي يترتب عليه الكثير بالنسبة لي. قلت له: انت يا عديم الذمة والضمير، ستقوّمني وستقرر مصيري؟! ابتسم ابتسامة البلادة الخاصة به وقال: اطمئن يا محمد، انت عبي وانا مش رح أقصّر".
أغلقت باب الغرفة علينا بالمفتاح، سحبت المفتاح ووضعته في جيبي. كان في زاوية الغرفة فأس وكريك وطورية ومجرفة. سحبت ذراع الفأس وقلت له وسط ذهوله وامتقاع لونه: اكتب التقرير امامي الان يا حقير، املأ القسم الأخير الذي يخصك من التقرير وانا سأملأ القسم الأول الذي يخصني!! تمنّع قليلا فهددته، فادعى انه كان سيكتب عني افضل تقويم، قلت له: اكتب امامي والان، فأخذ يسألني ماذا اكتب في هذه الخانة وانا أقول له اكتب ممتاز، وهنا اكتب جيد جدا وهنا اكتب ممتاز، الى ان فرغ من تعبئة التقرير فقلت له اكتب كتاب التغطية الموجه الى مدير التربية والتعليم، فانصاع وكتب، قلت له اكتب العنوان على المغلف فكتب، قلت له سجل الكتاب في الصادر والوارد ففعل، ثم حملت الكتاب معي واودعته في نفس اليوم ديوان مديرية التربية والتعليم؛ حيث تم تسجيله وتوثيقه، وبذلك تخلصت من أذى معلم فاسد قبيح، مطبقا قاعدة: "ناس بتخاف ما بتستحي".
نُقلت من مدرسة الدجنية، مديرا لمدرسة حمامة العموش الإعدادية عام 1973، لم يكن لقرية حمامة ولا لمدارس القرى أذنة او مراسلون يُعنون بنظافة المدارس، اشتريت عدة باكيتات سيرف وتايد وعددا من القشاطات والمكانس، وظهر يوم الخميس قلت للطلاب: غدا سنشطف وننظف مدرستنا، فأرجو ممن يرغب في المساعدة من طلاب المرحلة الإعدادية – باستثناء البنات – ان يحضر على الساعة العاشرة صباحا. حضر طلاب عديدون وحضر معلمو المدرسة في مقدمتهم: سميح شداد وإبراهيم السوقي ومصطفى الرابي، أخرجنا المقاعد من كل الصفوف ووضعناها في الساحة تحت الشمس، خلعت حذائي وجراباتي وشمّرت بنطلوني ودلقت اول سطل ماء في غرفة التدريس وحملت القشاطة واخذت افرك رغوة الصابون باسمنت الغرفة واسحب الماء الى الخارج فتدافع الطلاب وجردوني من القشاطة واخذوا ينظفون، بهمة ومتعة، غرف التدريس التي أصبحت تلمع من شدة التنظيف.
كانت سيارات التجنيد تلف على المدارس تحض الطلاب الكبار على الالتحاق بالعسكرية، كنت ادخل الى الصفوف وأقول للطلاب ان وفدا عسكريا ألهيه بشرب الشاي، سيدخل عليهم بعد قليل محاولا اقناعهم بمزايا التجنيد، واضيف ان استمرارهم في الدراسة سيمكنهم من الالتحاق بالجيش ضباطا تلمع النجوم على اكتافهم.
جاءتنا الى المدارس – وكنت معلما في مدرسة الدجنية الإعدادية عام 1972 – بلاغات ونماذج تطلب منا التسجيل في حزب الدولة "الاتحاد الوطني" فرفضت ان اسجل وطالبت بالتوقف عن اقتطاع دينار من رواتب المعلمين ثمن المجلة الرسمية التي تصدرها وزارة التربية والتعليم: "رسالة المعلم". وانخرطت في العمل السري للمعلمين الوطنيين الذين يناضلون من اجل إعادة احياء نقابة المعلمين الأردنيين، تحدثت مع العم عبد خلف الداودية اول نقيب منتخب للمعلمين الأردنيين عام 1954 واعلمني ان حل النقابة عام 1958 كان بسبب موقفها السياسي المناوئ لحكومة سمير الرفاعي.
ومن الصدف الغريبة ان الهيئة السرية لمفوضي نقابة المعلمين، كانت تضم 3 طفايلة هم: إبراهيم الجرابعة وغالب الفريجات وانا، بالإضافة الى احمد جرادات وتيسير شحروري وخالد الحمبوز. قررنا ان نطبع كميات كبيرة من مشروع القانون والنظام الداخلي لنقابة المعلمين لتوزيعها على المعلمين على نطاق واسع، فالتقينا في مدرسة التاج الثانوية التي كان مديرها إبراهيم الجرابعة، وهناك سحبنا آلاف الصفحات على ماكينة الستانليس وفرغنا من ترتيبها وتكبيسها في مجموعات بعد منتصف الليل. حملت نحو مئتي مجموعة و"طحت" نزول جبل التاج الى الساحة الهاشمية؛ حيث سرفيس عمان الزرقاء فوجدت مقعدا بصعوبة ونمت ليلتي تلك في الزرقاء. وفي الصباح الباكر كنت في سرفيس الزرقاء المفرق وهناك كنت اطوي أوراق النظام الداخلي والقيها في الليل من فوق اسوار منازل المعلمين او ادسها من تحت الأبواب، لأجد من يقول لي من المعلمين غامزا بعد أيام ان النظام جيد!!
فوجئت عندما تصفحت صحيفة "الشعب" التي كان يرأس تحريرها العملاق إبراهيم سكجها، كان النظام الداخلي (السري) لنقابة المعلمين منشورا على صفحتين من تلك الصحيفة، ذهبت الى مكتبة ماجد عنبتاوي في المفرق وابتعت كل اعداد صحيفة صوت الشعب ووزعتها على المعلمين المهتمين. كان من تجرأ على نشر نظام نقابة ممنوعة، هو الصحافي البارز محمد أبو غوش، الذي أسعدتني زمالتي معه في الصحافة بعدها بسنوات، وكان من تجرأ على إجازة نشر تلك المادة الخطيرة، هو "المعلم" إبراهيم سكجها، الذي تشرفت بالعمل بإمرته في صحيفة "صوت الشعب" في الثمانينيات!!.

(العرب اليوم 2015-03-22)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات