يسرا.. عندما تنبش المسكوت عنه!

قامت الدنيا ولم تقعد على استضافة أمانة عمان للفنانة المصرية القديرة يسرا، بحفل عيد الأم. من تابع مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع إخبارية إلكترونية محلية، خلال الأيام القليلة الماضية، هيئ له أن الأردن دخل معركة جديدة، لا تقل ضراوة عن مشاركته في الحرب على "داعش"، عنوانها هذه المرة استضافة الفنانة يسرا في حفل "الأمانة"!
سيل من الانتقادات، بل وشتائم من كل حدب وصوب، ضد من استضاف يسرا. ومشاركات بالتعليق والهجوم من مختلف المستويات والشرائح؛ محامون وأطباء وصحفيون ونقابيون وغيرهم. ولم يخل الأمر، طبعا، من تصدي البعض للحملة، لكن صوت هذا البعض بقي خافتا محدودا، في ظل حالة التجييش وطبول الحرب التي قرعت ضد يسرا و"الأمانة".
ما يستوقفك في خضم هذه الجلبة "الفيسبوكية"، وحملة الشتم والهجاء، هو فقط الهجوم الذي تناول يسرا كفنانة، وكأن الفن سبة وعيب، ما يعيدك لتقف أمام جبل من التناقضات والمفارقات في العقل الجمعي العربي، الذي يعيش حالة انفصام عميقة، تتمظهر ثقافيا وفكريا واجتماعيا في مختلف مناحي حياتنا.
لو سألت أغلب الأردنيين والعرب، شيبا وشبانا، إن كانوا يعرفون الفنانة المصرية يسرا، لجاءتك الإجابة بـ"نعم" كبيرة، بل وقد يبدأ كثيرون بتعداد أعمالها الفنية، من أفلام ومسلسلات، ما يدل على متابعة أعمالها، وحضور الأفلام والمسلسلات بشكل عام. وهذا أمر طبيعي وإيجابي بلا شك، بل إن آلاف الأعمال الفنية العربية، ومنها من تقلدت فيها يسرا دور البطولة، قد أسهمت عبر العقود القليلة الماضية، في الارتقاء بالذائقة الفنية للمواطن العربي، وأسهمت في بناء وعي عربي عابر للقُطرية.
قد يكون التأثير الذي أسهم به الفن العربي، وتحديدا المصري والسوري واللبناني منه، أكبر بكثير من كل التأثير الإيجابي الذي قدمه مفكرون وتربويون وأدباء عرب، بقيت إسهاماتهم العظيمة حبيسة حلقات ضيقة من نخب المثقفين والمهتمين، ولم تنفذ إلى مسامات الوعي الشعبي، كما فعل الفن السينمائي والتلفزيوني والمسرحي.
حالة الانفصام والتناقض التي نتحدث عنها، في العقل العربي الجمعي، تتعلق بالفن والموسيقى والمسرح وغيرها من فضاءات الإبداع والفنون. فرغم أن أغلب الناس يتابعون ويستمعون ويطربون للموسيقى والأفلام والمسلسلات والأعمال الفنية، إلا أن رأيا عاما و"موقفا" غريبين يكادان يطغيان لدى شرائح مجتمعية عربية واسعة، بما فيها شرائح "مثقفين" أو متعلمين وجامعيين، تجاه التمثيل والفن والغناء والموسيقى؛ إذ تجر هذه المجالات إلى باب الحرام الديني والعيب الاجتماعي للمشتغلين فيها، فيما تؤيد فتاوى مجانية، لا تكلف صاحبها دقيقة تفكير وتمحيص، هذا الانطباع و"الموقف"!
لا أريد الدخول في جدل تحريم الموسيقى والفنون والتمثيل، وحروب الفتاوى التي لا تعرف من أين تنهال على رأسك عند فتح نقاش عابر حول مثل هذا الأمر؛ فليس هنا مكان هذا الجدل، ولست صاحبه. لكن ما يستوقفك، ويفتح عقلك على مليون سؤال، هو حالة التناقض والانفصام التي تعيشها الغالبية، كما أزعم، تجاه الفن والموسيقى. فالكل يستمع ويطرب ويتابع المسلسلات والأفلام، بل ويتأثر ويتفاعل بما تقدمه من قيم إيجابية وارتقاء بالذوق الفني وحس الجمال لدى الإنسان، إضافة إلى جانب الترفيه طبعا، في وقت ينقلب فيه النقاش النظري في أي جلسة، نحو تحريم الفن ورفضه شعبيا واجتماعيا ودينيا، استنادا إلى مقولة أن "الدين واضح"!
لا أدعي أنني أملك وصفة لحل لهذا الانفصام والتناقض في العقلية العربية. لكنها مجرد قضية مطروحة ومفتوحة للنقاش العام، تبقى من دون حسم حتى اليوم. وما قضية استضافة أمانة عمان للفنانة يسرا، وما أثارته من تفاعلات "فيسبوكية"، إلا عنوانا لغياب الحسم في هذه الإشكالية الثقافية العميقة!
(الغد 2015-03-23)