مأساة السنة في العراق

لم يكن في العراق قبل الاحتلال الأميركي له، والتدخل الإيراني السافر في شؤونه في أثناء الاحتلال وبعده، صراع شيعي-سُنّي أو إسلامي-مسيحي. كان الحكم عَلْمانياً حامياً لحرية الأديان والمذاهب، بما في ذلك الوثنية واليزيدية. وكان العيش مشتركاً والزواج مختلطاً لدرجة أن أحد شباب الأسرة الواحدة قد يكون عربياً أو كردياً أو مسلماً أو مسيحياً، متزوجاً من كردية أو عربية أو مسيحية أو مسلمة؛ أو العكس بالنسبة للمرأة. كما كان الانتساب في العراق قومياً؛ عربياً أو كردياً. غير أنه لما كان الحكم دكتاتورياً عنيفاً طيلة الفترة التي تلت الحكم الملكي، فقد كانت توجد معارضة له، كان يتم سحقها أو تهرب إلى الخارج المعادي لنظام الحكم.
ولما كانت جمهورية إيران الإسلامية هي العدو الرئيس لنظام الحكم، فقد آوت المعارضة ودعمتها، مما جعل تلك المعارضة تتخلى عن هويتها القومية لصالح الهوية المذهبية، ليرضى النظام الإيراني عنها ويدعمها. وهكذا، تحولت من معارضة سياسية إلى معارضة شيعية مليشياوية للنظام العراقي مع أنه لم يكن سُنياً؛ فالجيش الذي قاتل إيران وانتصر عليها، كان يضم عدداً من الشيعة من مختلف الرتب، أكثر مما يضم من السُنّة.
وبالاحتلال الأميركي للعراق وسقوط نظامه، تمكنت إيران، بالتواطؤ مع الاحتلال في جميع المراحل، من مشاركته في الحكم واجتثاث البعث أو العروبة من العراق، وتحويل الصراع كله إلى صراع مذهبي شيعي-سُنّي بالدرجة الأولى.
ونتيجة لذلك، بقي السُنّة في العراق يواجهون وحدهم الاحتلال وإيران والمليشيات الشيعية المتحالفين معها. أما الأكراد، فلم يتعرضوا، حتى مجيء تنظيم "داعش" للاحتلال، أو يشتبك الشيعة معهم مع أنهم سُنّة، أو العكس. وهكذا بدا كما لو أن الشيعة (العرب) والأكراد السُنّة متحالفون ضد السُنّة (العرب).
فبعد ظهور "داعش" في المنطقة، وسيطرته على مدن وقرى كردية، انضم الأكراد إلى الشيعة في محاربة السُنّة؛ فمنعوا الذين هربوا أو هُجِّروا من قراهم ومدنهم بعد تحريرها من "داعش" من العودة إليها، أو فتكوا بهم بحجة تعاونهم مع "داعش" ضدهم. وبذلك، صار السُنّة في العراق تحت رحمة أو قسوة خمسة "دواعش" أو مليشيات؛ هي داعش الدولة الإسلامية، وداعش الحشد الشعبي الشيعي، وداعش الجيش والأمن العراقيان، وداعش إيران، وداعش الأكراد أو البيشمركة. وكما يشاع بين الناس هناك، فإنه يخطط لتهجير ثلث السُنّة على الأقل، وإبادة ثلث آخر على الأقل، والإبقاء على ثلثهم في الأكثر.
إن المأساة التي يعيشها السُنّة في العراق (ومن قبلهم ومن بعدهم المسيحيون وأمثالهم على يد "داعش") فوق كل وصف. إن ذروة مأساتهم تتجلى في تخلي الجميع عنهم. إذ بينما يتمتع (العرب) الشيعة -مؤقتاً- بدعم إيران، والأكراد بدعم أميركا، والمسيحيون بعطف العالم كله، لا يوجد من يعطف على السُنّة في العراق (وفي سورية). وحتى تركيا التي تتظاهر أو تزعم بأنها الدولة الحامية للسُنّة، تتفرج على مأساتهم ولا تفعل شيئاً لحمايتهم وإنقاذهم.
الحقيقة المُرّة كالعلقم، هي أنه تحت ستار الحرب على "داعش" تجري إبادة منتظمة للسُنّة في العراق. وبالنسبة لإيران، فإن ما يجري حرب استرداد؛ أي رد تاريخي على معركة القادسية التي استطاع فيها عمر بن الخطاب هزيمة الفرس والقضاء على الإمبراطورية الفارسية. وبالنسبة للأكراد فرصة عظيمة للفوز بالاستقلال، وبأوسع مما كانوا يحلمون به. الغد